صدر للكاتب: نايف عبوش، عن دار الاثير للطباعة والنشر- جامعة الموصل، مؤخرا (2013م) مجموعة قصصية تحت عنوان: (انثيالات من حافة الذات) وهي تضم العناوين التالية :- 1- أحلام تلاشت مع الريف، 2-أحلام متوقدة، 3-اساطير حالمة، 4- الكبرياء تشيخ، 5- أنين شجى توارى من زمان، 6- جرجر ساير، 7- رحلة في كهوف الذاكرة، 8- رحيل مفاجيء، 9- رحيل محتوم، 10- زخات مطر في فضاءات ديرتي، 11- سمن وخبز تنور، 12- ضفائر وصل منكوتة، 13- طيبة ساذجة، 14- عجوز لا تتكاسل، 15-عطاء بلا من، 16- عودة الى قريتي، 17- من ذاكرة أيام زمان، 18- نكوص عاطفي للماضي، 19- نوارس الشاطيء، 20- هديلها أشجاه، 21-همسة في رثاء الذات، 22- وداع الرحيل.ـ
وفي الوقت الذي نهنئ فيه الكاتب الاديب نايف عبوش على مجموعته القصصية يسعدنا ان نقدم هذه الدراسة النقدية عنها للدكتور محمود عبد الناصر:ـ
ـ رؤية نقدية للمجموعة القصصية "انثيالات من حافة الذات"ـ
ـ للأديب الأستاذ نايف عبوش
ـ بقلم: الدكتور محمود عبد الناصر نصر
بين لفتة للماضي وأخرى ترنو نحو غد آت أدار القاص قلمه في كهوف الذاكرة محلقاً بخيالاته بعيداً في فضاءات البرية. أطلق العنان لقلمه فصال وجال داخل النفس وخارجها، فصور وقدر، وما خفي كان أعظم. وسع من مدى عدسته حيناً فـتأتى الحيز الزمكاني (الزماني و المكاني في آن) شديد الضيق في الحجم شديد الاتساع للعقل كي يعدو في رحابه. اتخذ من (الفلاش باك) أداة بل مطية طيعة في سرده، فآتت أكلها ضعفين. أزالت الستار أولاً عن مخزون من ذكريات تكأكأت في لحظة درامية أججت من أوار العمل الفني، و مهدت السبيل لقراءة الكف عما هو آت، ولا يعلمه إلا من هو به أعلم.ـ
حنين يدغدغ القلب حيناً، ويعتصر اللب أحياناً. أطياف ذكرى تبصبص من خلف ساتر، اصطنعه الزمن، قوته الغربة، أحكمت إغلاقه هفوات ذاكرة أتعبها مرور السنين، وقد عدت كما الرهوان. مضى ما مضى. انبرت ليال، وانطوت أيام، وما تزال هناك ذكرى غضة، أبية، أليفة تأبى أن تنصاع لسطوة القهر، وأحداث الجديدان.ـ
وبين عين ترنو بحنين إلى ماض درس وعين ترقب الغد في خوف وأمل ورجاء، سطَّر يراع القاص لحظات استوقفت العقل فتوقف، وأمرته فخضع، وأرته الآية الكبرى، فهلل وكبَّر. إنه الحلم الجميل، إنه النفثة الربانية التي ما أن تراود الجسد حتى تدب فيه روح، والروح لها الخلود. وما أن تغازل العقل حتى يطرب ثملاً، آملاً أن يأتي الغد، والغد لناظره قريب. فالأحلام متوقدة، كامنة كما الأساطير. عسى ألا تتلاشى مع الريح كلما استعرضت قوتها. والحلم ما أجملهُ!ـ
رباه ما لهذا الحلم لا يشيخ. لا يصارعه هِرم. له الخلود كما الروح الطاهرة. له الكبرياء. لكم ظل حلم يراود صاحبه. وهامة ذاك الصابر تناطح السحاب. أمل يداعبه. غد يترقبه. والحلم الأزهر تارة يقارب البنان، وتارة يسابق الزمن، والعزيمة عند صاحبها قدت من الصخر. بل هي أشد وأقوى.ـ
وفي انتظار ما لا تلوح في الأفق بشائر مقدمه، تظل الآهة حبيسة بين الضلوع. تظل الذات المعذبة تلملم أشلاءها، تضمد جراحها، تمني نفسها، تعزي ذاتها، تتحلى بالصبر، وقد جزع من جزع، وفقد العزيمة من فقد، وخلع حلة الإيمان من كفر.. رباه سلم!ـ
وصل لمبتغاه من وصل، وتعثر في الطريق من تعثر، وتقطعت السبل بمن لم يجد له نصيراً ولا ولداً. تكأكأت الأحزان على ذاك النفر، فآثر الرحيل. قال وداعاً، ثم اختفى. قالها والعين تجري سوابقها. رحل والقلب يتحرق شوقاً على ماض عز عليه أن ينساه. يتلهف على موضع رباه وحماه. يئن حنيناً لمرضعته ومولاه. يمضي، يخبو شبحه رويداً رويداً. يختفي. وتبقى الذكرى في كهوف الزمن.ـ
تأتت المجموعة في صورة عدد من "لدغات العقارب"، إن جاز لي استخدام مصطلح أديبنا المصري العالمي خالد الذكر الدكتور يوسف إدريس- رحمه الله- في معرض وصفه للقصة القصيرة من حيث أنها سريعة ومكثفة وسريعة التأثير. لقد قال القاص في المساحة الضيقة ما يحتاج قوله مساحات و مساحات، و حيث أن تلك طبيعة القصة القصيرة و القصيرة جداً فقد حالفه التوفيق إلى أبعد الحدود.ـ
جاءت لدغات العقارب بأسلوب تلغرافي على حد تعبير سلامة موسى. وحيث أن ما يعذب حياتنا ويسومه سوء العذاب بالطبع يعذب أسلوبنا كما أقر فلوبير، فقد صاغ القاص عذاباته، بل عذاباتنا جميعاً ووضعها في صورة اختارها بعناية. فالمضمون نشكله، والشكل نملأه، والإحساس حس مشكل، والشكل شكل يُحس على حد تعبير كروتشيه في جدليته الفنية. وحيث أن العاطفة بدون صورة عمياء، والصورة بدون عاطفة فارغة كما يرى كروتشيه، فقد تأتت المجموعة حصباء وسط بطحاء.ـ
وإن كانت السمة العامة المميزة للمجموعة هي كون قصصها في جلتها من النوع القصير جداً، فقد أجاد القاص إلى أبعد حد في انتقاء اللحظة القصصية لبدء السرد في كل قصة على حدة. تلك "اللحظة" على حد تعبير الأديبة الإنجليزية الكبيرة فيرجينيا وولف تشتمل على "ذرة الرمل" على حد تعبير الأديب الإنجليزي الكبير وليم بليك. تنوعت اللحظات بتنوع القصص، وتنوعت معها حبات الرمال، ولكنها ظلت تجمعها ذات الصحراء التي اُنتزعت منها. إنها صحراء حياتنا على اتساعها. حياة لا يمر يوم منها بدون مشهد من مشاهد قصص المجموعة. فالقاص من البشر، وشخوص قصصه بشر، كما نحن نشر.ـ
أرى القاص وقد آثر العزف على ذاك الوتر الميلودرامي. ذاك الوتر الذي جعل الدمع يتراقص أحياناً في المحاجر ألماً و شفقة و حزناً على وصل منكوث. عول القاص على نمط التكثيف الشديد الذي أتاح له جدل ضفائر الحبكة في سطور قد لا تتجاوز العشرة في بعض القصص. أقول إنما استخدامه (لفنية الفلاش باك) وتوظيفه لفنية تيار الشعور قد أتاح له العودة إلى ماضي سحيق، لنبش ما قد دفن، ثم العودة بسرعة مكوكية للحاضر لأخذ زمام الحدث، و ما زالت نبضاته ساخنة. تم كل ذاك في وسط جو فاحت منها رائحة الأسى أحياناً و الشفقة أحياناً أخرى في مواقف تكاد تمزق الفؤاد ويخر لفعلها القلب هداً.ـ
أهَّلت سني عمر القاص –أطاله الله- قلمه من أن يصف من البشر كما بيئة البشر ما قد لا تقع عليه أعين شباب اليوم. فصال يراعه و جال، وأبدع. لقد وفى وصفاً الشيخ الهرم، و البيئة العقيم القاحلة. تأبط الكِبر القحولة. ترادف الهِرم و اليباب. تزاوج اليفن و العقم، و بقي الأمل، بقي الكبرياء، بقيت روح تتأرجح بين ما تبقى من أيامها، ناظرة إلى ما هو قادم، حتى و إن ولتها الثمانين ظهرها. وفي وسط دياجير هاتيك البيئة اليائسة أتاح له قلمه الترفيه عن قارئه، بل تلقينه درساً دسماً في بيئة لم يعهدها، على الأقل بالنسبة لمن ليس لديه خبرة بأرض الرافدين. كما أن التوسل باستخدام فنية تيار الشعور أتاح له إظهار ما انضوى في مطاوي الماضي السحيق، حيث تتقافز الواحدة في ذيل أختها.ـ
آثر القاص الأجواء المشحونة عن بكرة أبيها بالشجن. شجن ظل دفيناً يحاول التشبث بقناع زائف يرتديه، و لكن أنى لقناع شفاف أن يخبئ حقيقة أليمة مُرة تأبى إلا أن تفصح عن نفسها.ـ
يميل القاص في معظم الأحيان إلى التكثيف الشديد للأحداث، كما أنه جد خبير باختيار تلكم اللحظة التي تبدأ منها أحداث القصة، وغالباً ما يختارها وسط الأحداث. و هي تشكل بالنسبة لسرده الخطاف السردي الذي يعلق عليه أحداث قصصه. فاستطاع من خلاله نسج خيوط الحبكة، حتى إذا ما تأتت لحظة الكشف ترك القاص قارئه والفكرة تصول في عقله و الدمعة تترقرق في محاجره.ـ
وقع اختيار القاص على نمط الشخصية الكادحة. إنما هي ذات تسعى للتعرف على نفسها وسط مستنقع استوت فيه ذات الثغاء بذات النهيق بذات الصراخ بذات الألم. إنما هي هوية متكونة، بل قل في طور التخلق ، ما زالت في مرحلة هلامية، في صورة هيولية، و لكن ما كل ما يتمنها المرء يدركه. و إن لم يدركه في الواقع المعاش فلا ضير من إدراكه في العالم غير المعاش، حيث لا تثريب على من تخيل. قديماً قالها ذاك الحكيم، "إذا ما كنت مسلسل اليدين و القدمين فبإمكانك أن ترقص على رنات سلاسلك". و إن كان الحمار (عفواً في التشبيه ولكن الحمار لعب دوراً في المجموعة) قد عاش لحظات حلم وردي جميل، فأجدر بمن ركب الحمار أن يعيش تلكم اللحظات. أرى القاص قد أعاد تراثاً قد اندرس. قدَّمه لنا على طبق متبل بحفنة من كلمات أرض الرافدين.ـ
إنما هي تراجيديا الباحث عن ذاته، المنقب عنها في زحمة لا تكاد تنفض، ويا حسرتاه! إنه لم يجدها. لقد افتقدها، وها هو يترنم برثائها. عندما وصلت في قراءتي تلكم الجملة، "نهض مستعينا بعكازه المعقوف،ميمما وجهه صوب قمة التل المجاور،حيث وضع أولى خطواته المتعثرة صوب السفح، ليشرع بالتسلق نحو القمة للتأمل، على وعورة الدرب، ومشقة الصعود" شعرت بأن القاص قد حصر ما يجب أن يقال في كلمات قليلة، وأعطانا جواز سفر ندخل به عالم ما لم يقال، فدخلنا، أو على الأقل دخلت أنا شخصياً، وحتى الآن لم أنتوي الرجوع.ـ
أكاد أرى بطلاً من أبطال المجموعة مترع القلب بالحنان ينفر من عالم أشباهه إلى عالم البراءة و النقاء. أراه و قد وجد عالمه يعج عن آخره بما أتخمه و أوجعه، فبات يطلب النقاء لدى عالم بنات الفضاء. لقد ورد في الأثر أن الأعمش (الأديب و الفقيه و الساخر الكبير) كان من حين لآخر ينفر من بني البشر لكثرة ترددهم عليه طلباً لعلمه، فكان يخلو مع عنزته يحادثها و يسامرها و يقص عليها، فكان الناس يقولون "ليتنا كنا عنزة الأعمش".ـ
عوَّل القاص على استخدام متميز لفنية الإرهاص والتي أعطت حيزاً ما أبرحه للعقل ليصول ويجول بين كوريدورات تفتحت أمامه منذ أن وقعت العين على أول كلمة في قصة "رحيل مفاجئ" التي تعتمد هكذا فنية. فالاستيقاظ جاء على غير العادة، استيقاظ غير مريح بالرغم من الفترة الطويلة التي أنعم عليه بها سلطان الكرى. بدأت رغبة ملحة، تكاد تكون وسواساً تكأكأ على عقله المشوش. مزاج متعكر، وإحساس بالتثاقل، ثم انتهى الأمر بقرار تأجيل السفر. ومع رنين الجرس، تبدأ الأحداث تأخذ اتجاهاً تصعيدياً لبلوغ الذروة ، وما أن تآمر الشك مع أضغاث أحلامه، حتى بدأت أطراف الخيط تتجمع في الأيدي، منذرة باقتراب العاصفة. كل الظروف تشير إلى ما لا يحمد عقباه، فالوجه المكفهر قد حمل الخبر على جناحه. هبت العاصفة فاقتلعت ما اقتلعت ومضت إلي حال سبيلها، وبقى عليه أن يعي ما قد حدث.ـ
القارئ للمجموعة القصصية يستشعر جلياً توجهاً متميزاً لدى القاص. يظهر للعيان من خلال كلمات المجموعة مدى تأثر القاص بواقع خبره، جربه، اكتوى بجمره. واقع معاش غير مصطنع في خيال أو مستورد من لا مكان. إنما هي صرخات يطلقها. ترن في مسامعنا إذ نحن قد أصابنا ما أصابنا، وإذ نحن من بني البشر. لحظات شديدة الوقع، مشاهد ولحظات صورها يراع القاص ببراعة يراعه فضخ فيها من روحه ما جعلها صورة طبق الأصل.ـ
للقاص صوت مسموع في الأوساط الثقافية. فقد نشر العديد من المقالات في المجلات والصحف، وفي عدة مواقع الكترونية على الشبكة العنكبوتية. كما أن له حضور فاعل في مختلف الأنشطة الأدبية والثقافية. وله اهتمام خاص بموضوع التواصل الثقافي مع التراث بقصد الحفاظ عليه، وحمايته من مخاطر الانقراض بتحديات العصرنة.ـ
ـ والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
8/4/2013ـ م
وقد اخترنا للقاريء الكريم احدى قصص المجموعة:ـ
ـ قريتي ايام زمان
ـ نايف عبوش
وأنا أحتسي شاي الصباح ليس بعيدا عن حافة النهر في دكة الدار، فاحت من كوبي رائحة الماضي الجميل بأهله، وسرحت بي الذاكرة في أرجاء المكان، وأطلال منازله التي رحل أهلها، واستعرضت في امسي صورة الراعي ذلك الصبي النحيف، وصوت نايه يصدح في مرتع الوادي العميق بمرابع قريتي، وتلك العجوز المنهكة وهي عائدة الى البيت، تحمل حزمة من العشب على ظهرها لصخالها التي حجرتها عن امهاتها في زريبة الدار. تذكرت لحظة الغروب، وكيف كان الكل يرجعون إلى منازلهم، وقد أعياهم التعب من الحصاد، لكن مجلس السمر الذي اعتادوه بعد العشاء كل يوم، حيث يتبادلون أطراف الحديث الذي لا يخلو من الدعابة والمزاح، ينسيهم تعب اليوم، فيعودون لبيوتهم في سعادة غامرة، ويخلدون في نوم عميق بعد عناء يوم شاق، ليستيقظوا في صباح اليوم التالي مع صياح الديك فجرا، تغمر نفوسهم البهجة بيوم جديد. إنها حياة اهل قريتي ايام زمان، بكل ما فيها من طيبة، وألفة، ومحبة، وحنان......ـ
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
وفي الوقت الذي نهنئ فيه الكاتب الاديب نايف عبوش على مجموعته القصصية يسعدنا ان نقدم هذه الدراسة النقدية عنها للدكتور محمود عبد الناصر:ـ
ـ رؤية نقدية للمجموعة القصصية "انثيالات من حافة الذات"ـ
ـ للأديب الأستاذ نايف عبوش
ـ بقلم: الدكتور محمود عبد الناصر نصر
بين لفتة للماضي وأخرى ترنو نحو غد آت أدار القاص قلمه في كهوف الذاكرة محلقاً بخيالاته بعيداً في فضاءات البرية. أطلق العنان لقلمه فصال وجال داخل النفس وخارجها، فصور وقدر، وما خفي كان أعظم. وسع من مدى عدسته حيناً فـتأتى الحيز الزمكاني (الزماني و المكاني في آن) شديد الضيق في الحجم شديد الاتساع للعقل كي يعدو في رحابه. اتخذ من (الفلاش باك) أداة بل مطية طيعة في سرده، فآتت أكلها ضعفين. أزالت الستار أولاً عن مخزون من ذكريات تكأكأت في لحظة درامية أججت من أوار العمل الفني، و مهدت السبيل لقراءة الكف عما هو آت، ولا يعلمه إلا من هو به أعلم.ـ
حنين يدغدغ القلب حيناً، ويعتصر اللب أحياناً. أطياف ذكرى تبصبص من خلف ساتر، اصطنعه الزمن، قوته الغربة، أحكمت إغلاقه هفوات ذاكرة أتعبها مرور السنين، وقد عدت كما الرهوان. مضى ما مضى. انبرت ليال، وانطوت أيام، وما تزال هناك ذكرى غضة، أبية، أليفة تأبى أن تنصاع لسطوة القهر، وأحداث الجديدان.ـ
وبين عين ترنو بحنين إلى ماض درس وعين ترقب الغد في خوف وأمل ورجاء، سطَّر يراع القاص لحظات استوقفت العقل فتوقف، وأمرته فخضع، وأرته الآية الكبرى، فهلل وكبَّر. إنه الحلم الجميل، إنه النفثة الربانية التي ما أن تراود الجسد حتى تدب فيه روح، والروح لها الخلود. وما أن تغازل العقل حتى يطرب ثملاً، آملاً أن يأتي الغد، والغد لناظره قريب. فالأحلام متوقدة، كامنة كما الأساطير. عسى ألا تتلاشى مع الريح كلما استعرضت قوتها. والحلم ما أجملهُ!ـ
رباه ما لهذا الحلم لا يشيخ. لا يصارعه هِرم. له الخلود كما الروح الطاهرة. له الكبرياء. لكم ظل حلم يراود صاحبه. وهامة ذاك الصابر تناطح السحاب. أمل يداعبه. غد يترقبه. والحلم الأزهر تارة يقارب البنان، وتارة يسابق الزمن، والعزيمة عند صاحبها قدت من الصخر. بل هي أشد وأقوى.ـ
وفي انتظار ما لا تلوح في الأفق بشائر مقدمه، تظل الآهة حبيسة بين الضلوع. تظل الذات المعذبة تلملم أشلاءها، تضمد جراحها، تمني نفسها، تعزي ذاتها، تتحلى بالصبر، وقد جزع من جزع، وفقد العزيمة من فقد، وخلع حلة الإيمان من كفر.. رباه سلم!ـ
وصل لمبتغاه من وصل، وتعثر في الطريق من تعثر، وتقطعت السبل بمن لم يجد له نصيراً ولا ولداً. تكأكأت الأحزان على ذاك النفر، فآثر الرحيل. قال وداعاً، ثم اختفى. قالها والعين تجري سوابقها. رحل والقلب يتحرق شوقاً على ماض عز عليه أن ينساه. يتلهف على موضع رباه وحماه. يئن حنيناً لمرضعته ومولاه. يمضي، يخبو شبحه رويداً رويداً. يختفي. وتبقى الذكرى في كهوف الزمن.ـ
تأتت المجموعة في صورة عدد من "لدغات العقارب"، إن جاز لي استخدام مصطلح أديبنا المصري العالمي خالد الذكر الدكتور يوسف إدريس- رحمه الله- في معرض وصفه للقصة القصيرة من حيث أنها سريعة ومكثفة وسريعة التأثير. لقد قال القاص في المساحة الضيقة ما يحتاج قوله مساحات و مساحات، و حيث أن تلك طبيعة القصة القصيرة و القصيرة جداً فقد حالفه التوفيق إلى أبعد الحدود.ـ
جاءت لدغات العقارب بأسلوب تلغرافي على حد تعبير سلامة موسى. وحيث أن ما يعذب حياتنا ويسومه سوء العذاب بالطبع يعذب أسلوبنا كما أقر فلوبير، فقد صاغ القاص عذاباته، بل عذاباتنا جميعاً ووضعها في صورة اختارها بعناية. فالمضمون نشكله، والشكل نملأه، والإحساس حس مشكل، والشكل شكل يُحس على حد تعبير كروتشيه في جدليته الفنية. وحيث أن العاطفة بدون صورة عمياء، والصورة بدون عاطفة فارغة كما يرى كروتشيه، فقد تأتت المجموعة حصباء وسط بطحاء.ـ
وإن كانت السمة العامة المميزة للمجموعة هي كون قصصها في جلتها من النوع القصير جداً، فقد أجاد القاص إلى أبعد حد في انتقاء اللحظة القصصية لبدء السرد في كل قصة على حدة. تلك "اللحظة" على حد تعبير الأديبة الإنجليزية الكبيرة فيرجينيا وولف تشتمل على "ذرة الرمل" على حد تعبير الأديب الإنجليزي الكبير وليم بليك. تنوعت اللحظات بتنوع القصص، وتنوعت معها حبات الرمال، ولكنها ظلت تجمعها ذات الصحراء التي اُنتزعت منها. إنها صحراء حياتنا على اتساعها. حياة لا يمر يوم منها بدون مشهد من مشاهد قصص المجموعة. فالقاص من البشر، وشخوص قصصه بشر، كما نحن نشر.ـ
أرى القاص وقد آثر العزف على ذاك الوتر الميلودرامي. ذاك الوتر الذي جعل الدمع يتراقص أحياناً في المحاجر ألماً و شفقة و حزناً على وصل منكوث. عول القاص على نمط التكثيف الشديد الذي أتاح له جدل ضفائر الحبكة في سطور قد لا تتجاوز العشرة في بعض القصص. أقول إنما استخدامه (لفنية الفلاش باك) وتوظيفه لفنية تيار الشعور قد أتاح له العودة إلى ماضي سحيق، لنبش ما قد دفن، ثم العودة بسرعة مكوكية للحاضر لأخذ زمام الحدث، و ما زالت نبضاته ساخنة. تم كل ذاك في وسط جو فاحت منها رائحة الأسى أحياناً و الشفقة أحياناً أخرى في مواقف تكاد تمزق الفؤاد ويخر لفعلها القلب هداً.ـ
أهَّلت سني عمر القاص –أطاله الله- قلمه من أن يصف من البشر كما بيئة البشر ما قد لا تقع عليه أعين شباب اليوم. فصال يراعه و جال، وأبدع. لقد وفى وصفاً الشيخ الهرم، و البيئة العقيم القاحلة. تأبط الكِبر القحولة. ترادف الهِرم و اليباب. تزاوج اليفن و العقم، و بقي الأمل، بقي الكبرياء، بقيت روح تتأرجح بين ما تبقى من أيامها، ناظرة إلى ما هو قادم، حتى و إن ولتها الثمانين ظهرها. وفي وسط دياجير هاتيك البيئة اليائسة أتاح له قلمه الترفيه عن قارئه، بل تلقينه درساً دسماً في بيئة لم يعهدها، على الأقل بالنسبة لمن ليس لديه خبرة بأرض الرافدين. كما أن التوسل باستخدام فنية تيار الشعور أتاح له إظهار ما انضوى في مطاوي الماضي السحيق، حيث تتقافز الواحدة في ذيل أختها.ـ
آثر القاص الأجواء المشحونة عن بكرة أبيها بالشجن. شجن ظل دفيناً يحاول التشبث بقناع زائف يرتديه، و لكن أنى لقناع شفاف أن يخبئ حقيقة أليمة مُرة تأبى إلا أن تفصح عن نفسها.ـ
يميل القاص في معظم الأحيان إلى التكثيف الشديد للأحداث، كما أنه جد خبير باختيار تلكم اللحظة التي تبدأ منها أحداث القصة، وغالباً ما يختارها وسط الأحداث. و هي تشكل بالنسبة لسرده الخطاف السردي الذي يعلق عليه أحداث قصصه. فاستطاع من خلاله نسج خيوط الحبكة، حتى إذا ما تأتت لحظة الكشف ترك القاص قارئه والفكرة تصول في عقله و الدمعة تترقرق في محاجره.ـ
وقع اختيار القاص على نمط الشخصية الكادحة. إنما هي ذات تسعى للتعرف على نفسها وسط مستنقع استوت فيه ذات الثغاء بذات النهيق بذات الصراخ بذات الألم. إنما هي هوية متكونة، بل قل في طور التخلق ، ما زالت في مرحلة هلامية، في صورة هيولية، و لكن ما كل ما يتمنها المرء يدركه. و إن لم يدركه في الواقع المعاش فلا ضير من إدراكه في العالم غير المعاش، حيث لا تثريب على من تخيل. قديماً قالها ذاك الحكيم، "إذا ما كنت مسلسل اليدين و القدمين فبإمكانك أن ترقص على رنات سلاسلك". و إن كان الحمار (عفواً في التشبيه ولكن الحمار لعب دوراً في المجموعة) قد عاش لحظات حلم وردي جميل، فأجدر بمن ركب الحمار أن يعيش تلكم اللحظات. أرى القاص قد أعاد تراثاً قد اندرس. قدَّمه لنا على طبق متبل بحفنة من كلمات أرض الرافدين.ـ
إنما هي تراجيديا الباحث عن ذاته، المنقب عنها في زحمة لا تكاد تنفض، ويا حسرتاه! إنه لم يجدها. لقد افتقدها، وها هو يترنم برثائها. عندما وصلت في قراءتي تلكم الجملة، "نهض مستعينا بعكازه المعقوف،ميمما وجهه صوب قمة التل المجاور،حيث وضع أولى خطواته المتعثرة صوب السفح، ليشرع بالتسلق نحو القمة للتأمل، على وعورة الدرب، ومشقة الصعود" شعرت بأن القاص قد حصر ما يجب أن يقال في كلمات قليلة، وأعطانا جواز سفر ندخل به عالم ما لم يقال، فدخلنا، أو على الأقل دخلت أنا شخصياً، وحتى الآن لم أنتوي الرجوع.ـ
أكاد أرى بطلاً من أبطال المجموعة مترع القلب بالحنان ينفر من عالم أشباهه إلى عالم البراءة و النقاء. أراه و قد وجد عالمه يعج عن آخره بما أتخمه و أوجعه، فبات يطلب النقاء لدى عالم بنات الفضاء. لقد ورد في الأثر أن الأعمش (الأديب و الفقيه و الساخر الكبير) كان من حين لآخر ينفر من بني البشر لكثرة ترددهم عليه طلباً لعلمه، فكان يخلو مع عنزته يحادثها و يسامرها و يقص عليها، فكان الناس يقولون "ليتنا كنا عنزة الأعمش".ـ
عوَّل القاص على استخدام متميز لفنية الإرهاص والتي أعطت حيزاً ما أبرحه للعقل ليصول ويجول بين كوريدورات تفتحت أمامه منذ أن وقعت العين على أول كلمة في قصة "رحيل مفاجئ" التي تعتمد هكذا فنية. فالاستيقاظ جاء على غير العادة، استيقاظ غير مريح بالرغم من الفترة الطويلة التي أنعم عليه بها سلطان الكرى. بدأت رغبة ملحة، تكاد تكون وسواساً تكأكأ على عقله المشوش. مزاج متعكر، وإحساس بالتثاقل، ثم انتهى الأمر بقرار تأجيل السفر. ومع رنين الجرس، تبدأ الأحداث تأخذ اتجاهاً تصعيدياً لبلوغ الذروة ، وما أن تآمر الشك مع أضغاث أحلامه، حتى بدأت أطراف الخيط تتجمع في الأيدي، منذرة باقتراب العاصفة. كل الظروف تشير إلى ما لا يحمد عقباه، فالوجه المكفهر قد حمل الخبر على جناحه. هبت العاصفة فاقتلعت ما اقتلعت ومضت إلي حال سبيلها، وبقى عليه أن يعي ما قد حدث.ـ
القارئ للمجموعة القصصية يستشعر جلياً توجهاً متميزاً لدى القاص. يظهر للعيان من خلال كلمات المجموعة مدى تأثر القاص بواقع خبره، جربه، اكتوى بجمره. واقع معاش غير مصطنع في خيال أو مستورد من لا مكان. إنما هي صرخات يطلقها. ترن في مسامعنا إذ نحن قد أصابنا ما أصابنا، وإذ نحن من بني البشر. لحظات شديدة الوقع، مشاهد ولحظات صورها يراع القاص ببراعة يراعه فضخ فيها من روحه ما جعلها صورة طبق الأصل.ـ
للقاص صوت مسموع في الأوساط الثقافية. فقد نشر العديد من المقالات في المجلات والصحف، وفي عدة مواقع الكترونية على الشبكة العنكبوتية. كما أن له حضور فاعل في مختلف الأنشطة الأدبية والثقافية. وله اهتمام خاص بموضوع التواصل الثقافي مع التراث بقصد الحفاظ عليه، وحمايته من مخاطر الانقراض بتحديات العصرنة.ـ
ـ والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
8/4/2013ـ م
وقد اخترنا للقاريء الكريم احدى قصص المجموعة:ـ
ـ قريتي ايام زمان
ـ نايف عبوش
وأنا أحتسي شاي الصباح ليس بعيدا عن حافة النهر في دكة الدار، فاحت من كوبي رائحة الماضي الجميل بأهله، وسرحت بي الذاكرة في أرجاء المكان، وأطلال منازله التي رحل أهلها، واستعرضت في امسي صورة الراعي ذلك الصبي النحيف، وصوت نايه يصدح في مرتع الوادي العميق بمرابع قريتي، وتلك العجوز المنهكة وهي عائدة الى البيت، تحمل حزمة من العشب على ظهرها لصخالها التي حجرتها عن امهاتها في زريبة الدار. تذكرت لحظة الغروب، وكيف كان الكل يرجعون إلى منازلهم، وقد أعياهم التعب من الحصاد، لكن مجلس السمر الذي اعتادوه بعد العشاء كل يوم، حيث يتبادلون أطراف الحديث الذي لا يخلو من الدعابة والمزاح، ينسيهم تعب اليوم، فيعودون لبيوتهم في سعادة غامرة، ويخلدون في نوم عميق بعد عناء يوم شاق، ليستيقظوا في صباح اليوم التالي مع صياح الديك فجرا، تغمر نفوسهم البهجة بيوم جديد. إنها حياة اهل قريتي ايام زمان، بكل ما فيها من طيبة، وألفة، ومحبة، وحنان......ـ
للعودة إلى الصفحة الرئيسة