ذكاء الإنسان
إعداد صباح صدّيق الدملوجي
الذكاء واحدة من الملكات المتأصلة لدى الإنسان التي لا يُفهم عنها إلا القليل مَثلها مَثل مَلَكَة الحب التي لديه. نستطيع استنتاجا وبسهولة أن نحكم أن هذا الشخص ذكي بينما نعرف أن الآخر غبي أو بليد. رغم ذلك يصعب تعريف الذكاء بكلمات مجردة أو بجملة محددة واضحة ومفهومة للجميع. لذا ساهم العديد من علماء الاجتماع وعلماء النفس والتربويين بوضع التعاريف للذكاء فعرفه البعض على أنه قابلية الفرد على فهم الأفكار المعقدة وعلى التكيف مع البيئة بصورة فعالة وعلى التعلم من التجارب وعلى المشاركة في أنماط منطقية متباينة وعلى التغلب على العقبات بأفكار دقيقة بينما عرفه آخرون على أنه مَلَكة ذهنية لدى الإنسان تمنحه الإدراك والشعور والوعي الذاتي وممارسة الإرادة الذاتية. توفر هذه الملكة له أيضا القابلية الإدراكية ليتعلم ويستنبط المفاهيم ويستنتج ويمارس المنطق ويتبع الصواب بما في ذلك تمييز الانماط المتباينة وفهم الأفكار ووضع الخطط وحل المسائل واتخاذ القرار والاحتفاظ بالمعرفة واستخدام اللغة للتواصل.
لماذا يختلف ذكاء افراد الجنس البشري؟ وما هي العوامل التي تؤثر في ذكاء الفرد الواحد؟ هناك إجماع علمي على تظافر عوامل وراثية وأخرى بيئية في التأثير على ذكاء الطفل حتى يصل أشده. غير أن تحديد إي من العاملين له التأثير الاكبر في ذكاء الفرد لا زال مسالة لم تحسم بعد. يميل الرأي السائد إلى القول أن 80% من التفاوت في ذكاء الأفراد يرجع إلى اسباب وراثية[1]. كما أتُفق على عدم وجود جين واحد يحدد الذكاء بل أنه نتيجة تفاعل أصول جينية متعددة. أما العوامل البيئية ذات الأثر فتشمل عوامل بيولوجية منها التغذية وخاصة تغذية المرأة أثناء الحمل والتغذية خلال السنتين الأوليين من حياة الطفل. يدخل ضمن العوامل البيولوجية أيضا الضغط النفسي والعنف الذي يتعرض له الفرد أثناء طفولته. الجزء الآخر من العوامل البيئية هي العوامل الاجتماعية-الثقافية التي تحيط بالفرد أثناء مرحلة الطفولة. فنوع الكتب التي يقرأها الأبوان والبرامج التلفزيونية التي يرونها ومستوى ثقافتهما تؤثر كلها على الطفل بدرجة ملحوظة. يشمل هذا العامل نوع الثقافة التي يتلقاها الطفل في مراحل دراسته الأولية والمستوى الثقافي لأقرانه. لكن علينا أن لا ننسى أن كل هذه العوامل لا تمثل حسب رأي الاختصاصيين سوى 20% فقط من التأثير الكلي على الطفل تاركة 80% للعوامل الوراثية أي الجينية.
أظهرت دراسات في هذا المجال أن وزن الطفل عند الولادة له علاقة طردية مع ذكاءه. كما أظهرت دراسة حديثة أن الذكاء يُسترث عن طريق الأم أكثر مما يُسترث عن طريق الأب[2]فعوامل الذكاء تتركز غالبيتها على الكروموسوم (X) الذي تمتلك المرأة اثنين منه مقارنة بكروموسوم واحد للذكور. يلاحظ في هذا المجال أن الذكاء يسود في عوائل معينة. أي أن الأجيال تتوارثه وقد يسري في عائلة معينة لعدد من الأجيال رغم أن عامل الوراثة من جهة الأم يتغير.
ارتبط تطور ذكاء الإنسان بصورة وثيقة مع تطور دماغه. إننا في الحقيقة نلاحظ أن العديد من مميزات الدماغ الإنساني كالتعاطف والحزن واتباع طقوس معينة واستخدام الرموز والأدوات وحتى اللغة موجودة أيضا لدى القردة العليا إنما بدرجة أبسط. الشمبانزي مثلا يصنع الأدوات ويستخدمها في الحصول على الطعام وفي الدفاع عن نفسه ولديه ملكة التلاعب والخداع ومراعاة التسلسل الاجتماعي في مجموعته كما يفهم استخدام الرموز والاعداد.
بدء تطور الإنسان كما يقول علماء المتحجرات البشرية قبل نحو 2.4 مليون سنة حيث ظهر ما يدعونه الإنسان الماهر (Homo Habilis) الذي أُطلقت عليه هذه التسمية لمهارته حيث بدء بصنع الأدوات الحجرية. كان ذلك تطورا حاسما تزامن مع نمو قابليته الذهنية فقد وجد أولئك العلماء أدلة على استخدامه مثلا عيدان لنكش الأسنان. كان كل ذلك متساوقا مع تطور سعة دماغه وحجم جمجته. إلا أن ذلك التطور ولّد مشكلة لأنثى الإنسان في ذلك العصر إذ أن كبر حجم جمجة الجنين جعلها تضع جنينها قبل اكتمال نموه مما تطلب منها رعايته لفترة ليست بالقصيرة حتى يتكامل نموه جسميا وذهنيا بحيث يتمكن من الذود عن نفسه.
إلا أن العامل الأهم في تطور ذكاء الكائن البشري كان بالأحرى كمية الدم المتدفق إلى دماغة وليس حجم الدماغ وذلك ما اكتشفه باحثون استراليون بالتعاون مع آخرين من جنوب أفريقيا [3]من خلال دراسة حجم الثقوب التي تدخل من خلالها الشرايين إلتي تزود الدماغ بالدم في جماجم تعود إلى فترات مختلفة من التطور العقلي للإنسان الأولي حيث وجدوا أن تطوره يتناسب مع حجم هذه الثقوب أكثر من تناسبه مع حجم الدماغ. ويبدو كذلك أن تفاوت حجم الدماغ بين الأفراد من جيلنا الحالي لا يعتبر دليلا على ذكاء الفرد. العامل الأهم هو مقدار الدم المتدفق إلى دماغ الفرد. لذا يقول البحثون "إن الذكاء خاصية لدى الفرد تتميز بتعطشها للدم".
أما ما يدعى بالإنسان العاقل (Homo Sapiens) فيقول هؤلاء العلماء أنه لم يظهر إلا قبل نحو مائتي ألف سنة وتزامن ذلك مع تطور كبير في قابليته الذهنية التي تجلت في تطور مهارته في صنع الأدوات الحجرية. كان كل ذلك التطور في موطن الإنسان الأول في إفريقيا حيث لم تتسرب المجموعات البشرية الأولى خارج إفريقيا إلا قبل نحو ستين ألف سنه. وإذا وصلنا إلى ثلاثين ألف سنة قبل زمننا الحالي فسنجد دلائل على أن إنسان تلك الحقبة كان يمتلك كافة الملكات الذهنية المتطورة الموجودة لديه الآن مثل امتلاكه الحس الفني وممارسة الفن التشكيلي واستخدام الحلي والمتاجرة مع أقرانه في مجتمعات مجاورة وقيامه بدفن موتاه.
أصبح كون الدماغ مركز ذكاء الإنسان أمراً مفروغاً منه لكن بقي السؤال: أين وكيف يستخدم الإنسان ذكاءه أو باختصار كيف يفكر؟ عندما توفي لينين سنة 1924 استدعى السوفييت أشهر جراحي الأعصاب في العالم آنذاك وهو الألماني أوسكار فوغت (Oskar Vogt) لتشريح دماغه واكتشاف سر نبوغ قائد الثورة الروسية[4]. قام فوغت بتشريح دماغ لينين إلى 1100 شريحة, لكنه لم يكتشف شيئا غير عادي سوى خلايا هرمية كبيرة الحجم بصورة ملحوظة. استمر السوفييت في بحوثهم على أدمغة النوابغ حتى أفول نجم اتحادهم وكان دماغ العالم النووي سخاروف سنة 1989 آخرها. نعم تعلموا الكثير عن تشريح الدماغ لكنهم لم يكتشفوا مكمن الذكاء. لكن الأطباء والباحثين يستطيعون اليوم من خلال التقنيات المستحدثة لتصوير الدماغ ونخص منها تقنية الرنين المغناطيسي (MRI) تحديد مناطق القشرة الدماغية التي تقوم بواجبات محددة مثل حل المسائل الرياضية وتلك التي تمتلك القابلية اللغوية وهكذا. غير أن الأتفاق الذي بدء يبرز نتيجة هذه البحوث هو أن الذكاء لا يعتمد على كفاءة وقوة مناطق التفكير المختلفة في الدماغ, إنما على كفاءة الاتصال الموجودة بين هذه المناطق. قام الأستاذ في جامعة كاليفورنيا ريشارد هايير (Richard J. Haier) وزميله الباحث ريكس يونغ(Rex E. Jung) بطرح نظرية في هذا المجال تقول أن الذكاء الإنساني يعتمد على كفاءة شبكة داخل الدماغ تربط بين الفصوص الأمامية للدماغ التي تقوم بالتخطيط والتنظيم والفعاليات المتطورة الأخرى مع المنطقة الجدارية (parietal region) في الجهة الخلفية للدماغ وهي المنطقة التي تتلقى وتكامل بين المعلومات التي ترد من العينين والأذنين وبقية الحواس.[5] ولا زالت هذه النظرية تمثل أحدث ما توصل له الباحثون حول مكمن الذكاء وطريقه عمله.
يؤيد ذلك البحوث التي أجراها البروفيسور جيانفينغ فينغ[6] في جامعة وارويك الإنكليزية بالتعاون مع باحثين صينيين حيث قاموا أيضا بدراسة فعالية الدماغ بواسطة الرنين المغناطيسي (MRI) وهدفهم هو تقييم فعاليات الدماغ الحركية حيث تشخص أجزاء الدماغ التي تتفاعل مع بعضها البعض بهذه الواسطة لاكتشاف كيفية عمل الذكاء. وقد وجد فينغ أن الأدمغة الأكثر تغيرا (more variable) تكثر فيها اتصالات أجزاء الدماغ ببعضها كما أن مقياس الذكاء (IQ) وتبعا لذلك إبداعية الدماغ يكونان أعلى فيها. تمخضت هذه الدراسة أيضا عن معلومات قيمة جدا تخص انماط حركية التفكير لدى المصابين بالشيزوفرينيا والتوحد التي تختلف تماما عن حركية الأدمغة الطبيعية مما يفتح أمام الأطباء العاملين على علاج هذه الحالات مجالا لا يثمن للسير قدما في بحوثهم.
من المناسب أن نذكر أن بحوث البرفيسور فينغ تجرى في قسم علوم الحاسوب في الجامعة المذكورة وهدفها فهم عمل الدماغ الإنساني لاستخدام ذلك في تطوير الذكاء الاصطناعي.
قياس الذكاء:
يعتبر مقياس IQ وهما الحرفان الأوليان للتعبير ( Intelligent Quotient) أو ما يعني (حاصل الذكاء) المقياس الأشهر والمعروف للجميع. ابتُكر هذا المقياس من قبل عالم السايكولوجيا الفرنسي ألفريد بيني (Alfred Binet) في أوائل القرن العشرين. إلا أن مُضِي أكثر من قرن على ابتكاره وما جرى من اكتشافات علمية ومن دراسة لطبيعة الذكاء لدى الأفراد جعل غالبية المختصين ينظرون إليه كمقياس قاصر عن اعطاء صورة واقعية للذكاء. يبين هذا المقياس قابلية الفرد الإدراكية (cognitive ability) مقارنة بعامة الناس حيث يكون المعدل لدى عامة الناس 100 ويعتبر من يحصل على 130 أو أكثر متميز الذكاء بينما يعتبر من يحصل على 70 أو دون ذلك متخلفا عقليا. إلا أن هؤلاء المختصين يقولون أن هذا المقياس يعاني من خلل جوهري لأن اسئلته (تبسّط قابليات الدماغ البشري بصورة فادحة) ويضيف أحدهم أن اختبارIQ بانمطته المتبعة لا يصلح إلا لتقييم إداء الطلاب الغربيين في مدارس تعتمد المناهج الغربية.
من هذا المنطلق قام بعضهم[7] بوضع مفاهيم اكثر تعمقا للذكاء. غاردنر مثلا اقترح سنة 1984 نظريته القائلة يوجود سبعة أنماط من الأذكياء (وسّعها لاحقا لتشمل تسعة أنماط) وهذه الأنماط هي :
البصري – المكاني: يتصف به الذين يفكرون بالأبعاد والبيئة المحيطة كالمعماريين والبحارة وهم يهوون الرسم وصنع النماذج ويتميزون عامة بأنهم حالمون.
الجسدي - الحركي: وهم يستخدمون قابليتهم البدنية بصورة ممتازة. يحبون الحركة ويتواصلون مع الآخرين من خلال لغة الجسد.
الموسيقي: يتميز من لديه هذا النمط من الذكاء بامتلاكه حسا مرهفا للنغم وللصوت بصورة عامة.
ذكاء ما بين الأفراد: حيث يبرعون في التفاهم مع الآخرين ولديهم قابلية التعاطف مع الآخرين كما أن لديهم العديد من الصداقات.
ذكاء دواخل الفرد: وهم عامة منعزلون ومتناغمون مع شعورهم الداخلي. كما يتميزون بحكمتهم وبالإرادة القوية وثقتهم بأنفسهم واستقلالية قرارهم.
اللغوي: وهم الذين يستخدمون الكلمة بكفاءة ويتميزون بحاسة سمعهم المرهفة وهم عادة يفكرون بالكلمات.
المنطقي – الرياضي: منطقيو التفكير ومحتسِبون يفكرون نظريا وتجريديا وهم قادرون على تمييز واستكشاف الأنماط والعلاقات. يحبون التجربة ويكثرون الاستفسار كما يقومون بالتعلم وابتداع مفاهيم قبل أن يتعاملوا مع التفاصيل.
إلا أن غاردنر لم يفد بأن الشخص الذكي مثلا (لغويا) سيكون غبيا قدر تعلق الأمر بالذكاء (البصري المكاني) أو أي نمط آخر من الذكاء, فقط أن ميزته هي امتلاكه تميزا ظاهرا في الناحية اللغوية. لذا شبه غاردنر الأمر بالتميز الرياضي. فالذي يحوز المرتبة الأولى بين أقرانه بالقفز العالي على سبيل المثال سيمتلك أيضا قدرة جيدة في ركض المائة متر أو في رمي الرمح. من هذا المنطلق اقترح غاردنر مقياسا للذكاء العام اعطاه الرمز (g) كمختصر لكلمة (general) . يجري حساب هذا المؤشر من اختبارات متعددة في مجالات مختلفة للوصول إلى المؤشر العام لذكاء الفرد والذي يعتبر أكثر دلالة على تميز الفرد مقارنة بمؤشر (IQ). من بين هذه المجالات التي يختبر فيها الفرد : المهارة في الرياضيات والطلاقة اللفظية والتخيل البصري والذاكرة.
إلا أن روبرت ستاينبرغ قدم نظرية أخرى[8] تعرف بنظرية المرتكزات الثلاث للذكاء (The Triarchic Theory of Intelligence ). تعرّف هذه النظرية الذكاء بأنه قابلية الشخص على تحقيق النجاح في الحياة من خلال استثمار امكانياته المتميزة ومن خلال تصحيح أو التعويض عن نقاط ضعفه. غير أن ذلك محدد حسب ما تنص النظرية بمعايير الشخص الأخلاقية وضمن السياقات الاجتماعية والثقافية السائدة. ويقول صاحب هذه النظرية أن إحراز أو تحقيق النجاح يعتمد على موازنة إمكانيات الفرد التحليلية (استشعار وتحليل الموقف وتشخيص المشكلة) والإبداعية (وضع الحل المناسب والطريقة الأنسب لتنفيذه) والعملية (تنفيذ الحل الذي ابتدعه الشخص). لاشك أن اختلاف معايير الأشخاص الأخلاقية له أثر كبير في سلوك الشخص لذا يصعب مقارنة ذكاء (ٍس) مع ذكاء (ًص) لأن معاييرهما الأخلاقية قد تكون متباينة جدا فما يتقبله س ولا يتورع عن الإتيان به, قد يراه ص أمرا منكرا يستحيل عليه أن يسلكه حتى إذا كانت السياقات الاجتماعية والثقافية السائدة ذاتها. لذا يبقى الرجوع إلى هذه الطريقة لتقييم ذكاء الإنسان بناء على نجاحه في الحياة أمرا غير موضوعي.
من غرائب الذكاء البشري:
كان زميلنا المرحوم الدكتور يوسف بهجت قطان قد فاز بلقب (bbc professor) في ستينيات القرن الماضي وهو تحد لم يحاوله أو ينله أحد لمدة 14 سنة قبل ذلك. يمنح ذلك اللقب لمن يحصل على عضوية كلية الأطباء الملكية الإنكليزية وزمالة كلية الجراحين الملكية الإنكليزية في امتحانين متتالين في نفس الفصل الدراسي. لكن زملاءه من الأطباء كانوا يتهامسون أن د. قطان لم يكن بذلك الطبيب البارع في تشخيص العلل المرضية. السبب هو أنه كان يتمتع بذاكرة فوتوغرافية (photomemory) تساعده على الحفظ ليس إلا. هذه حالة تشبه ما رواه لي أحد الأساتذة البريطانيين فيما يخص طالبا هنديا كان يدرس الكيمياء لديه. فقد شك أن ذلك الطالب قد غش في احد الأمتحانات لأنه كان قد أجاب على أحد اسئلة الامتحان بنص يطابق النص الموجود في الكتاب المقرر. غير أن الطالب عند استدعاءه وتعنيفه من قبل الأستاذ عما اعتبرة غش فاضح أجاب بقدرته على حفظ أي نص عن ظهر قلب بعد قراءته لمرة واحدة فقط. عند وضع ادعاءه هذا قيد الاختبار من قبل الأستاذ الذي روى لنا القصة أثبت الطالب صحة ما ادعاه.
كلنا يذكر (المرحوم؟) عادل شعلان الطالب في الصف الثاني أو الثالث المتوسط الذي قدمه لنا تلفزيون بغداد في الستينيات وكان يستطيع إعطاء ناتج أي عملية حسابية من ضرب أو قسمة أو استخرج جذر تربيعي وما إلى ذلك في ثواني واعتبر معجزة في الذكاء. بعد عقد أو عقدين سمعت من زميل له كان يعمل معنا في شركة نفط الشمال أن عادل شعلان لم يكن ذكيا في أي درس من الدروس وكان بالكاد ينجح. وحتى المسائل الرياضية التي تحتاج إلى بعض التفكير للوصول إلى حلها الصحيح كانت تستعصي عليه. إذن كانت قابليته الذهنية منحصرة في امتلاكه (حاسبة تنفذ العمليات الأربع وعمليات التربيع واستخراج الجذر) من النوع المبتذل ألان!
قبل مدة قرأت عن شاب بريطاني الجنسية من أصل أفريقي يأخذونه في سفرة بهيليكوبتر فوق أي مدينة ليعود إلى الأرض ويرسم منظر المدينة التي طار على ارتفاع منخفض فوقها بدقة تماثل دقة آلة التصوير الفوتوغرافية. هل نعتبر ذلك ذكاء؟ كما يذكر البعض في هذا المجال الفيلم الشهير (rainman) الذي يروي قصة شاب مصاب بمرض التوحد لكنه يستطيع أيضا حفظ دليل التلفون بعد قراءته مرة واحدة فقط. لكن ما هو الفرق بين التوحد والذكاء المفرط؟ ربما شعرة واحدة في تشبيك أسلاك المخ.
مما يروى عن الموسيقار النمساوي الشهير موتزارت أنه بدء يعزف على البيانو ألحانا من ابتداعه تتصف بوقع متناسق يعجب سامعيه وهو في الثالثة من العمر. وعندما بدء والده الموسيقار المحترف بعد سنة تعليمه العزف بصورة نظامية كان بمقدوره إعادة عزف إي تمرين ينفذه الوالد بعد سماعه له مرة واحدة فقط. في الخامسة من عمره بدء بتأليف مقطوعات موسيقية صغيرة كان أبوه يسجلها في ما أصبح يعرف بـ(Nannerl Notenbuch) وهو دفتر أعده الأب لتسجيل تمارين بالنوتة الموسيقية للأخت التي تكبر موتزارت بخمس سنوات. أما سيمفونيته الأولى فقد ألفها وهو في الثامنة من عمره سنة 1764. لا شك أن موتزارت كان يمتلك ذكاء (موسيقيا) حسب تصنيف غاردنر يفوق أي شيئ معروف.
أما عالم الرياضيات والفيزياء الإيرلندي ويليام روان هاميلتون (1805-1865)William Rowan Hamilton فقد تعلم العبرية وكان يقرأ نصوصا مدونة بها وهو في السابعة من العمر كما تعلم العربية والفارسية والسنسكريتية والسريانية واللاتينية والإغريقية إضافة إلى أربع لغات أوروبية حديثة وعمره لا يتعدى الثانية عشرة. لكن ذلك لم يمنعه من الإبداع في الرياضيات والفيزياء حيث صحح بعض نظريات نيوتن وترك مساهمات مهمة جدا في علم البصريات كذلك.
لا شك أن أمثلة من هذا النوع من (فلتات الذكاء) تملأ مجلدات لو أراد الباحث التدقيق في زوايا السرد التاريخي لحياة العلماء والمبدعين. وإذا ما كان من أبدع في العالم الغربي الحديث قد دونت سيرته وابداعاته فكم من مبدع فائق الذكاء يماثل موتزارت أو هاميلتون قد عرفت الإنسانية في غضون التاريخ أو في زوايا المعمورة ممن لم يسعفهم مدونو التاريخ؟
هل يختلف مستوى الذكاء لدى أجناس الإنسان المختلفة؟ :
يقودنا ما ذكر سابقا إلى التساؤل: هل هناك اختلاف في ذكاء الشعوب أو الأثنيات؟ قلنا في بداية البحث أن الذكاء هو نتيجة عوامل وراثية وأخرى بيئية. لذا سيكون هناك اختلاف بسبب الظروف البيئية إذا ما حاولنا مقارنة ذكاء الطفل الآلماني مثلا بالطفل المصري أو الهندي وخاصة إذا ما اعتمدت الاسئلة المعتمدة لاختبارات(IQ) النمطية. غير أن اختبارات أجريت لأطفال من أصول أثنية مختلفة يعيشون في نفس المجتمع بينت بعض الفروق كذلك. ربما تكون الحياة الأسرية للأطفال هي التي أثرت عليهم. لست عالما بيولوجيا أو انثروبولوجيا لكي أعطي رأيا أخالف فيه جمهرة المختصين الذين ينكرون وجود فروق جينية تسبب مثلا ذكاء متميزا لدى أطفال الجنس الأبيض أو الأثنية اليابانية مقارنة بالزنجية أو اللاتينية. لكن أسمح لنفسي أن أقارن بين أجناس البشر كما تجري المقارنة بين أجناس الكلاب مثلا أخذاً بنظر الاعتبار كون الكلاب من أكثر الأجناس الحيوانية التي تختلف سلالاتها وقد تكون أيضا الجنس الحيواني الذي يعرف عامة البشر طباعه أكثر من أي جنس آخر. ألا نرى أن هناك سلالات من الكلاب أمهر في تمييز الروائح من غيرها؟ كما أن سلالات أخرى أمهر في تتبع فرائص الصيد وهناك سلالة ثالثة تختص بصيد الجرذان مثل القطط وهكذا. ألا يدل كل ذلك على اختلاف ذكاء كل من هذه السلالات في نواحي معينة؟ من هذا المنطلق أتساءل (ولا استطيع الجزم طبعا) أليس من الممكن تباين ذكاء السلالات البشرية على نفس القاعدة البيولوجية التي تميز سلالات الكلاب؟ سؤال ليس غير.
قلنا أن جمهرة العلماء ينكرون وجود تفاوت في ذكاء الأجناس البشرية[9]لكن آخرون يدعون بتميز بعض الأجناس دون سواها. تميُز الجنس اليهودي بالذكاء كان ولا يزال أحد ما يعتقد به العديد من الآوروبيين إضافة إلى اليهود أنفسهم مستندين إلى نفوذ اليهود في العديد من المهن الذهنية (كالطب أو المحاماة). أولم يقل لهم يهوه (أنكم شعب الله المختار)؟. غير أن نقاء العنصر اليهودي الذي كان العديد من الناس من يهود وغيرهم قد أخذوا به كأمر مفروغ منه جرى إسقاطه كحقيقة علمية بواسطة اختبارات الـ( DNA) كما حولها أحد المفكرين اليهود أنفسهم إلى أسطورة[10]. لذا نعود إلى أن البيئة والحالة الاجتماعية ربما تكونان العامل الذي جعل اليهود كأقلية مضطهدة يسعون للتميز. رغم أن القول بتغلب العامل الوراثي في تحديد ذكاء الفرد هو السائد (كما أُسلف القول), إلا أن بعض المصادر[11] في حديثها عن أهمية البيئة مقارنة بالوراثة في تحديد ذكاء الفرد تقول "لقد عقّدت الاكتشافات الأخيرة هذا الجدل من خلال البرهان على أن اختلاف العلاقة بين العوامل الوراثية والعوامل البيئية لا يتباين بين المجموعات المختلفة من الناس فقط, إنما يتغير عبر الزمن بين أفراد المجموعة الواحدة ذاتها. فالجينات والبيئة يتفاعلان باستمرار, لذا تبقى قضية سيادة أحد العاملين مسألة غير محسومة". هذا يسوق إلى الاعتقاد بأن ما يتصوره الكثيرون ذكاء وراثيا لدى اليهود ليس إلا نتيجة الحالة الاجتماعية لأتباع هذه الديانة.
تطور مستوى الذكاء :
الظاهرة الأخرى فيما يخص الذكاء ادعاء البعض ان معدل ذكاء الجنس البشري في تدهور. يذهب أحد الباحثين[12]إلى أن السبب في ذلك هو طفرات وراثية غير حميدة تتراكم في الأجيال من البشر. هذا كما يقول الباحث ليس بالشيئ الجديد فهو يحدث لأي جنس حيواني على مر العصور. الجديد هو أن الانتقاء الطبيعي أو "البقاء للأنسب" بين الأفراد حسب ما وضحه داروين كان يؤدي عمله فيسمح للأنسب والأصح بدنيا وذهنيا من الجنس البشري بالبقاء فقط. إلا أن العلم الحديث الذي يساعد كل كائن بشري على البقاء بالوسائل الدوائية والجراحية وغيرها قد أودى بهذه الطريقة الطبيعية في الحفاظ على نوعية البشر وساعد على تفاقم نسبة الذين لا يتمتعون بمستوى ذكاء عالي. العامل الآخر فائق الأهمية في هذا الشأن والذي يودي إلى زيادة في الطفرات الوراثية هو المواد الكيميائية المستخدمة في حفظ وتحسين نكهة أو مظهر المواد الغذائية أو كمبيدات حشرية أو كهورمونات في الزراعة والصناعة والأغذية المصنعة من منتوجات زراعية معدلة جينيا وكلها ذات تأثيرات غير حميدة تسبب تدهور ذكاء الأجيال الحديثة.
لكن هل يعقل هذا؟ دعونا نستذكر مقدار التقدم الذي أحرزه البشر خلال القرن الماضي في المجال العلمي والصناعي وتسارع وتعمق هذا التقدم. كيف يمكن أن يحدث ذلك مع تراجع ذكاء الجنس البشري؟ تساؤل آخر فقط.
ماذا عن التطور المستقبلي للذكاء الإنساني؟ اقتبس في أدناه من بحث منشور في (Journal of Future Studies,September,2011) قدمه كل من (A.Saniotis and M. Hanneberg) من جامعة أديليد الأسترالية بعنوان التطور المستقبلي للدماغ الإنساني (The Future Evolution of The Human Brain) : " يشير التطور السابق للدماغ البشري إلى أن الميزة الرئيسية لهذا التطور لم تكن التغير التشريحي في طبيعة بنية الدماغ بل كانت التغير في بيوكيمياء الدماغ وفسلجة الدماغ من خلال تنظيم الهورمونات والناقلات العصبية. لقد تناقص حجم دماغ الإنسان في الماضي القريب أي خلال فترة التطور التكنولوجي المتسارع والتنظيمات الاجتماعية متزايدة التعقيد. لكنه, أي الدماغ, يقوم الآن بالتكيف مع البيئة التي يسيطر عليها التحكم البشري. أما تطور الدماغ المستقبلي فسيحدث نتيجة التلاعب الإدراكي والاستجابة للتكنولوجيات والتنظيمات الاجتماعية المتغيرة. غير أن المفكرون عبر-الأنسنة (transhumanist) ذوو التوجه التكنولوجي يرون في المستقبل تعزيزات مصطنعة للبيئة البيولوجية لدماغ الإنسان تستند إلى تكنولوجيا المعلوماتية."
في هذا المقطع نرى الإشارة إلى تناقص حجم الدماغ في الماضي القريب, أي في عصر التقدم التكنولوجي. هل يمكن أن يكون ذلك هو السبب في ما قيل عن تراجع ذكاء الإنسان؟ رغم أن نصا سابقا في هذه المحاضرة نسب الذكاء إلى كمية الدم المتدفقة إلى الدماغ وليس إلى حجمه. كما يعزو البحث تطور الدماغ (وتبعا لذلك الذكاء) إلى التغير في بيوكيمياء الدماغ وفسلجتة ثم يشير إلى احتمال تطوير الدماغ بالواسطة استجابة للتطور التكنولوجي ولتطور تكنولوجيا المعلوماتية. بعد ذلك يستطرد الباحثان ذاكرين التلاعب بالمشاعر والتخيل لدى الإنسان بواسطة العقاقير. من هذا المنطلق يلمحان إلى امكانية استخدام العقاقير للتأثير على دماغ الإنسان. إنا شخصيا أشعر بالقلق من إمكانية امتلاك (دماغ معزز) بالواسطة أكان ذلك لي أو لأي إنسان آخر.
الإنسان والذكاء الاصطناعي, إلى أين؟ :
غير أن ما يثير القلق أكثر من حيازة (دماغ معزز) هو الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) أو ببساطة (AI) لدى الألات والحواسيب وما يمكن أن ينشأ عنه. مَن وَضع هذا التعبير هو عالم الحاسوب الأمريكي جون ماكارثي سنه 1955 وقصد به النظم الحاسوبية القادرة على إداء مهمات تحتاج عادة إلى ذكاء الإنسان مثل الإدراك البصري والتعرف على الكلام واتخاذ القرار. منذ ذلك التاريخ تطورت هذه النظم بحيث وصلنا إلى سيارات تقوم بقيادة نفسها لتصل من النقطة (آ) إلى النقطة (ب) دون تدخل الإنسان عدا اعطاءه الأمر.
الذكاء الاصطناعي بهيئته الحالية المستخدمة يوصف بـ(الضيق) لأنه مقتصر على مهمة واحدة مثل قيادة السيارة أو لعب الشطرنج. أثر هذا الجيل من أنظمة الذكاء الاصطناعي على المجتمع كبير جدا واستخداماته في تزايد. لكن هدف العلماء هو تطوير الذكاء الاصطناعي ليصبح ذكاء اصطناعيا شاملا ويدعونه (Artificial General Intelligence) أو (AGI). مثل هذا التطور إذا ما استمر قد يوصلنا إلى حواسيب يفوق ذكاءها ذكاء الإنسان كما يتصور بعض الباحثين. هذا إذن السبب الذي دفع بعضهم لاقتراح تعزيز الذكاء لدى الإنسان (استجابة للتطور التكنولوجي ولتطور تكنولوجيا المعلوماتية) والذي أبديت هلعي منه.
ولما ذكرنا الذكاء الاصطناعي وإمكانية تغلبه على الذكاء الإنساني فمن المناسب مراجعة ما يتصوره الأختصاصيون حول هذه الإمكانية. اقتبس في هذا المجال من بحث قدمه ماكس تبغمارك (Max Tegmark) رئيس معهد مستقبل الحياة[13] حيث يقول إن السؤال المهم على المدى البعيد هو ماذا سيحدث إذا ما نجح AGI وأصبح أفضل من الذكاء الإنساني في النواحي الإدراكية؟ فمثل هذا النظام سيتمتع بخاصية التحسين الذاتي التكرارية التي قد تقدح زناد انفجار الذكاء الاصطناعي بحيث يترك الإنسان وراءه! ربما يتمكن هذا الذكاء الخارق من اختراع تقنيات ثورية جديدة تساعد في القضاء على الحروب والأمراض والفقر ويكون ذلك أكبر حدث في تاريخ البشرية غير أن باحثين آخرين يخشون أن (يتمرد) هذا الذكاء على مصمميه ويؤدي إلى هلاك اليشرية ما لم نتعلم كيف ننسق أهدافه مع أهدافنا قبل أن يصبح ذا إمكانية خارقة.
لكننا لم نبين رأي هؤلاء المختصين حول احتمالية وتوقيت تطور الآنظمة الحاسوبية إلى هذا الواقع وهل ان ذلك ممكن فعلا أو أنه أحدى صفحات رواية في الخيال العلمي؟ يقول تيغمارك إن واحدة من الأساطير السائدة تدعي أننا سنحصل على ذكاء اصطناعي يفوق الذكاء الإنساني خلال هذا القرن. لكنه يضيف قائلا أن التاريخ ملئ بافتراضات تكنولوجية مفرطة التفاؤل. أين تلك المحطات التي تعمل يالاندماج النووي وتلك السيارات الطائرة التي يجب حسب تلك الافتراضات أن تكون معنا الآن؟................... لكنه يعود ليقول أنه من ناحية ثانية لا ينفي حدوث ذلك فبعض تنبؤات أساطين العلم كانت على عكس التفاؤل المفرط متشائمة بدرجة مضحكة. خذ مثلا ما قاله إرنست رذرفورد (Ernest Rutherford) سنة 1933 وهو عميد فيزيائيي الذرة في زمنه فقد أجاب على سؤال حول إمكانية تسخير الطاقة النووية فقال (إن مثل ذلك الاعتقاد ليس سوى هراء) وبعد يوم واحد فقط أعلن ليو زيلارد (Leo Szilard)عن توصله إلى التفاعل النووي التسلسلي (Nuclear Chain Reaction) الذي أوصلنا إلى القنبلة النووية ومحطات توليد الكهرباء النووية!
هل سيغلب غرور الإنسان ذكاءه؟ :
ما بين هذا وذاك سيبقى ذكاء الإنسان المحرك الأكثر فاعلية على كوكب الأرض وهو الذي أتاح لذلك المخلوق الذي تطور إلى هيئته التي نرى أنفسنا فيها الآن السيادة على بقية مخلوقات الله في أرضه الواسعة. لم تتحقق هذه السيادة بقوه عضل الإنسان بل تحققت بفضل ذكاء هذا المخلوق الفريد الذي انتشر من موطنه الأصلي الذي يقول المختصون أنه كان في الهضبة الأثيوبية ليستعمر كافة أصقاع الأرض تقريبا متكيفا مع المناخ والبيئة ويتكاثر أفراده بدرجة لم تبلغها أي من فصائل الحيوانات اللبونة الأخرى ويتعايش مع بقية الأنواع الحيوانية مدجنا لها ليفترسها أو ليسخرها لمنفعته أو طاردا لها من جواره إذا لم يستطع تهجينها. أما مغ بعضه البعض فقد عاش في مجموعات ما فتأت تزداد تعدادا حتى اصبحت مدنا عظمى تعد بضعة عشر مليونا في بعض الأماكن. سبق ذلك تكتله في عشائر وقبائل وممالك ودول غير أن كل ذلك لم يجرِ بيسر وبمسيرة سلمية فقد سخر ذكاءه للقتل والفتك بأفراد جنسه على المجال الفردي أو من خلال تجمعاته بطرق ندعوها وحشية رغم أن الوحوش ذاتها تنأى عن ممارستها مع بني نوعها. قام في سبيل ذلك مستغلا هذا الذكاء الذي وهبه الله لتطوير أسلحة ما زال فتكها يتعاظم حتى تكاد لو استخدمها فعلا غلى نطاق واسع تنهي الحياة بأصنافها المختلفة على كوكب الأرض. وأغرب ما في الأمر أن هذا الذكاء لم يهده إلى طريقة يتعايش بها مع بعضه البعض بسلام, لا بل رأينا وسمعنا من الفظائع ما ابتكر لها من تسميات مثل (الحروب الطاحنة) و (أسلحة الدمار الشامل) و(التطهير العرقى) و (الإبادة الجماعية). ومع ذلك لم تثنه هذه النزاعات عن القيام بتكييف البيئة لمصلحته مشيدا نُصبا وطرقا وهياكل غيرت وجه الأرض فشاد السدود معترضا تدفق أنهارها العظمى ليجمع مياهها وليولد منها طاقة وثقب الجبال ليتخذ فيها مسالك كما نبشها ليزرع فيها قوته إنما بطرائق ظالمة استهلكت تربتها في العديد من المواقع ونقّب في أعماقها باحثا عما يستفيد منه في تلك الأعماق وحلّق يسافر في أجواءها ملوّثا بأسفاره تلك وبما يحرقه على يابستها في تلك الماكنات التي ابتدعها بفضل ذكاءه تلك الأجواء بعد أن لوّث البراري والبحار حتى وصل الأمر إلى حدود تحمّل امكانيات هذا الكوكب الجبار رغم وفرتها الهائلة مما دفع بعقلاءه إلى التحذير بما لا تحمد عقباه إذا ما لم يستفق ذكاءه من نشوة الانتصار على بقية خلق الله وعلى البيئة والأرض ذاتها ليعود أدراجه إلى حيث يعالج ما جنته يداه ويحاول تحقيق التوازن مع بيئة الكوكب التي اعتقد أنه غلبها. لكن هيهات فذكاء الطبيعة أقوى من ذكاءه وما عليه إلا أن يتناغم معها ويتخلى عن غروره المهلك.
صباح صدّيق الدملوجي
عمان في 29 تشرين ثاني 2016
-------------------------------------------------------------------------------------------
المصادر :ـ
[1] -- See: Genetic and Environmental Impacts on Intelligence - Boundless
https://www.boundless.com › ... › Intelligence › Introduction to Intelligence
[2] -- إنظر مثلا :How Intelligence is Inherited from Mothers - Uplift
upliftconnect.com/intelligence-inherited-mothers/
[3] -- See: Smarter brains are blood-thirsty brains - University of Adelaide
https://www.adelaide.edu.au/news/news87342.html
[4] -- Where in the brain is intelligence? - Dana Foundation
www.dana.org/News/Details.aspx?id=42795
[5] -- المصدر السابق.
[6] -- See: Secrets of the human brain unlocked - University of Warwick
https://www2.warwick.ac.uk/newsandevents/news/secrets_of_the/
www.tecweb.org/styles/gardner.htm في Gardner's Multiple Intelligences –أنظر: [7]
[8] See: Triarchic theory of intelligence - Wikipedia, the free encyclopedia
https://en.wikipedia.org/wiki/Triarchic_theory_of_intelligence
[9] -- See: Scholarly articles for created equal race genes and intelligence
Genetics of brain structure and intelligence, By William Saletan - Toga
8-- أنظر: كتاب «اختراع الشعب اليهودي», المركز الفلسطيني للدراسات «الإسرائيلية» (مدار) عن منشورات المكتبة الأهلية في عمان ومن تأليف البروفسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ في «جامعة تل أبيب»..
[11] -- See: Genetic and Environmental Impacts on Intelligence, .” Boundless Psychology. Boundless, 20 Sep. 2016. Retrieved 30 Oct. 2016 from https://www.
[12] -- Leading Geneticist: Human Intelligence is Slowly Declining |
naturalsociety.com/leading-geneticist-human-intelligence-slowly-declining/
[13] -- Benefits & Risks of Artificial Intelligence, Max Tegmark, President of the Future of Life Institute, futureoflife.org/background/benefits-risks-of-artificial-intelligence
إعداد صباح صدّيق الدملوجي
الذكاء واحدة من الملكات المتأصلة لدى الإنسان التي لا يُفهم عنها إلا القليل مَثلها مَثل مَلَكَة الحب التي لديه. نستطيع استنتاجا وبسهولة أن نحكم أن هذا الشخص ذكي بينما نعرف أن الآخر غبي أو بليد. رغم ذلك يصعب تعريف الذكاء بكلمات مجردة أو بجملة محددة واضحة ومفهومة للجميع. لذا ساهم العديد من علماء الاجتماع وعلماء النفس والتربويين بوضع التعاريف للذكاء فعرفه البعض على أنه قابلية الفرد على فهم الأفكار المعقدة وعلى التكيف مع البيئة بصورة فعالة وعلى التعلم من التجارب وعلى المشاركة في أنماط منطقية متباينة وعلى التغلب على العقبات بأفكار دقيقة بينما عرفه آخرون على أنه مَلَكة ذهنية لدى الإنسان تمنحه الإدراك والشعور والوعي الذاتي وممارسة الإرادة الذاتية. توفر هذه الملكة له أيضا القابلية الإدراكية ليتعلم ويستنبط المفاهيم ويستنتج ويمارس المنطق ويتبع الصواب بما في ذلك تمييز الانماط المتباينة وفهم الأفكار ووضع الخطط وحل المسائل واتخاذ القرار والاحتفاظ بالمعرفة واستخدام اللغة للتواصل.
لماذا يختلف ذكاء افراد الجنس البشري؟ وما هي العوامل التي تؤثر في ذكاء الفرد الواحد؟ هناك إجماع علمي على تظافر عوامل وراثية وأخرى بيئية في التأثير على ذكاء الطفل حتى يصل أشده. غير أن تحديد إي من العاملين له التأثير الاكبر في ذكاء الفرد لا زال مسالة لم تحسم بعد. يميل الرأي السائد إلى القول أن 80% من التفاوت في ذكاء الأفراد يرجع إلى اسباب وراثية[1]. كما أتُفق على عدم وجود جين واحد يحدد الذكاء بل أنه نتيجة تفاعل أصول جينية متعددة. أما العوامل البيئية ذات الأثر فتشمل عوامل بيولوجية منها التغذية وخاصة تغذية المرأة أثناء الحمل والتغذية خلال السنتين الأوليين من حياة الطفل. يدخل ضمن العوامل البيولوجية أيضا الضغط النفسي والعنف الذي يتعرض له الفرد أثناء طفولته. الجزء الآخر من العوامل البيئية هي العوامل الاجتماعية-الثقافية التي تحيط بالفرد أثناء مرحلة الطفولة. فنوع الكتب التي يقرأها الأبوان والبرامج التلفزيونية التي يرونها ومستوى ثقافتهما تؤثر كلها على الطفل بدرجة ملحوظة. يشمل هذا العامل نوع الثقافة التي يتلقاها الطفل في مراحل دراسته الأولية والمستوى الثقافي لأقرانه. لكن علينا أن لا ننسى أن كل هذه العوامل لا تمثل حسب رأي الاختصاصيين سوى 20% فقط من التأثير الكلي على الطفل تاركة 80% للعوامل الوراثية أي الجينية.
أظهرت دراسات في هذا المجال أن وزن الطفل عند الولادة له علاقة طردية مع ذكاءه. كما أظهرت دراسة حديثة أن الذكاء يُسترث عن طريق الأم أكثر مما يُسترث عن طريق الأب[2]فعوامل الذكاء تتركز غالبيتها على الكروموسوم (X) الذي تمتلك المرأة اثنين منه مقارنة بكروموسوم واحد للذكور. يلاحظ في هذا المجال أن الذكاء يسود في عوائل معينة. أي أن الأجيال تتوارثه وقد يسري في عائلة معينة لعدد من الأجيال رغم أن عامل الوراثة من جهة الأم يتغير.
ارتبط تطور ذكاء الإنسان بصورة وثيقة مع تطور دماغه. إننا في الحقيقة نلاحظ أن العديد من مميزات الدماغ الإنساني كالتعاطف والحزن واتباع طقوس معينة واستخدام الرموز والأدوات وحتى اللغة موجودة أيضا لدى القردة العليا إنما بدرجة أبسط. الشمبانزي مثلا يصنع الأدوات ويستخدمها في الحصول على الطعام وفي الدفاع عن نفسه ولديه ملكة التلاعب والخداع ومراعاة التسلسل الاجتماعي في مجموعته كما يفهم استخدام الرموز والاعداد.
بدء تطور الإنسان كما يقول علماء المتحجرات البشرية قبل نحو 2.4 مليون سنة حيث ظهر ما يدعونه الإنسان الماهر (Homo Habilis) الذي أُطلقت عليه هذه التسمية لمهارته حيث بدء بصنع الأدوات الحجرية. كان ذلك تطورا حاسما تزامن مع نمو قابليته الذهنية فقد وجد أولئك العلماء أدلة على استخدامه مثلا عيدان لنكش الأسنان. كان كل ذلك متساوقا مع تطور سعة دماغه وحجم جمجته. إلا أن ذلك التطور ولّد مشكلة لأنثى الإنسان في ذلك العصر إذ أن كبر حجم جمجة الجنين جعلها تضع جنينها قبل اكتمال نموه مما تطلب منها رعايته لفترة ليست بالقصيرة حتى يتكامل نموه جسميا وذهنيا بحيث يتمكن من الذود عن نفسه.
إلا أن العامل الأهم في تطور ذكاء الكائن البشري كان بالأحرى كمية الدم المتدفق إلى دماغة وليس حجم الدماغ وذلك ما اكتشفه باحثون استراليون بالتعاون مع آخرين من جنوب أفريقيا [3]من خلال دراسة حجم الثقوب التي تدخل من خلالها الشرايين إلتي تزود الدماغ بالدم في جماجم تعود إلى فترات مختلفة من التطور العقلي للإنسان الأولي حيث وجدوا أن تطوره يتناسب مع حجم هذه الثقوب أكثر من تناسبه مع حجم الدماغ. ويبدو كذلك أن تفاوت حجم الدماغ بين الأفراد من جيلنا الحالي لا يعتبر دليلا على ذكاء الفرد. العامل الأهم هو مقدار الدم المتدفق إلى دماغ الفرد. لذا يقول البحثون "إن الذكاء خاصية لدى الفرد تتميز بتعطشها للدم".
أما ما يدعى بالإنسان العاقل (Homo Sapiens) فيقول هؤلاء العلماء أنه لم يظهر إلا قبل نحو مائتي ألف سنة وتزامن ذلك مع تطور كبير في قابليته الذهنية التي تجلت في تطور مهارته في صنع الأدوات الحجرية. كان كل ذلك التطور في موطن الإنسان الأول في إفريقيا حيث لم تتسرب المجموعات البشرية الأولى خارج إفريقيا إلا قبل نحو ستين ألف سنه. وإذا وصلنا إلى ثلاثين ألف سنة قبل زمننا الحالي فسنجد دلائل على أن إنسان تلك الحقبة كان يمتلك كافة الملكات الذهنية المتطورة الموجودة لديه الآن مثل امتلاكه الحس الفني وممارسة الفن التشكيلي واستخدام الحلي والمتاجرة مع أقرانه في مجتمعات مجاورة وقيامه بدفن موتاه.
أصبح كون الدماغ مركز ذكاء الإنسان أمراً مفروغاً منه لكن بقي السؤال: أين وكيف يستخدم الإنسان ذكاءه أو باختصار كيف يفكر؟ عندما توفي لينين سنة 1924 استدعى السوفييت أشهر جراحي الأعصاب في العالم آنذاك وهو الألماني أوسكار فوغت (Oskar Vogt) لتشريح دماغه واكتشاف سر نبوغ قائد الثورة الروسية[4]. قام فوغت بتشريح دماغ لينين إلى 1100 شريحة, لكنه لم يكتشف شيئا غير عادي سوى خلايا هرمية كبيرة الحجم بصورة ملحوظة. استمر السوفييت في بحوثهم على أدمغة النوابغ حتى أفول نجم اتحادهم وكان دماغ العالم النووي سخاروف سنة 1989 آخرها. نعم تعلموا الكثير عن تشريح الدماغ لكنهم لم يكتشفوا مكمن الذكاء. لكن الأطباء والباحثين يستطيعون اليوم من خلال التقنيات المستحدثة لتصوير الدماغ ونخص منها تقنية الرنين المغناطيسي (MRI) تحديد مناطق القشرة الدماغية التي تقوم بواجبات محددة مثل حل المسائل الرياضية وتلك التي تمتلك القابلية اللغوية وهكذا. غير أن الأتفاق الذي بدء يبرز نتيجة هذه البحوث هو أن الذكاء لا يعتمد على كفاءة وقوة مناطق التفكير المختلفة في الدماغ, إنما على كفاءة الاتصال الموجودة بين هذه المناطق. قام الأستاذ في جامعة كاليفورنيا ريشارد هايير (Richard J. Haier) وزميله الباحث ريكس يونغ(Rex E. Jung) بطرح نظرية في هذا المجال تقول أن الذكاء الإنساني يعتمد على كفاءة شبكة داخل الدماغ تربط بين الفصوص الأمامية للدماغ التي تقوم بالتخطيط والتنظيم والفعاليات المتطورة الأخرى مع المنطقة الجدارية (parietal region) في الجهة الخلفية للدماغ وهي المنطقة التي تتلقى وتكامل بين المعلومات التي ترد من العينين والأذنين وبقية الحواس.[5] ولا زالت هذه النظرية تمثل أحدث ما توصل له الباحثون حول مكمن الذكاء وطريقه عمله.
يؤيد ذلك البحوث التي أجراها البروفيسور جيانفينغ فينغ[6] في جامعة وارويك الإنكليزية بالتعاون مع باحثين صينيين حيث قاموا أيضا بدراسة فعالية الدماغ بواسطة الرنين المغناطيسي (MRI) وهدفهم هو تقييم فعاليات الدماغ الحركية حيث تشخص أجزاء الدماغ التي تتفاعل مع بعضها البعض بهذه الواسطة لاكتشاف كيفية عمل الذكاء. وقد وجد فينغ أن الأدمغة الأكثر تغيرا (more variable) تكثر فيها اتصالات أجزاء الدماغ ببعضها كما أن مقياس الذكاء (IQ) وتبعا لذلك إبداعية الدماغ يكونان أعلى فيها. تمخضت هذه الدراسة أيضا عن معلومات قيمة جدا تخص انماط حركية التفكير لدى المصابين بالشيزوفرينيا والتوحد التي تختلف تماما عن حركية الأدمغة الطبيعية مما يفتح أمام الأطباء العاملين على علاج هذه الحالات مجالا لا يثمن للسير قدما في بحوثهم.
من المناسب أن نذكر أن بحوث البرفيسور فينغ تجرى في قسم علوم الحاسوب في الجامعة المذكورة وهدفها فهم عمل الدماغ الإنساني لاستخدام ذلك في تطوير الذكاء الاصطناعي.
قياس الذكاء:
يعتبر مقياس IQ وهما الحرفان الأوليان للتعبير ( Intelligent Quotient) أو ما يعني (حاصل الذكاء) المقياس الأشهر والمعروف للجميع. ابتُكر هذا المقياس من قبل عالم السايكولوجيا الفرنسي ألفريد بيني (Alfred Binet) في أوائل القرن العشرين. إلا أن مُضِي أكثر من قرن على ابتكاره وما جرى من اكتشافات علمية ومن دراسة لطبيعة الذكاء لدى الأفراد جعل غالبية المختصين ينظرون إليه كمقياس قاصر عن اعطاء صورة واقعية للذكاء. يبين هذا المقياس قابلية الفرد الإدراكية (cognitive ability) مقارنة بعامة الناس حيث يكون المعدل لدى عامة الناس 100 ويعتبر من يحصل على 130 أو أكثر متميز الذكاء بينما يعتبر من يحصل على 70 أو دون ذلك متخلفا عقليا. إلا أن هؤلاء المختصين يقولون أن هذا المقياس يعاني من خلل جوهري لأن اسئلته (تبسّط قابليات الدماغ البشري بصورة فادحة) ويضيف أحدهم أن اختبارIQ بانمطته المتبعة لا يصلح إلا لتقييم إداء الطلاب الغربيين في مدارس تعتمد المناهج الغربية.
من هذا المنطلق قام بعضهم[7] بوضع مفاهيم اكثر تعمقا للذكاء. غاردنر مثلا اقترح سنة 1984 نظريته القائلة يوجود سبعة أنماط من الأذكياء (وسّعها لاحقا لتشمل تسعة أنماط) وهذه الأنماط هي :
البصري – المكاني: يتصف به الذين يفكرون بالأبعاد والبيئة المحيطة كالمعماريين والبحارة وهم يهوون الرسم وصنع النماذج ويتميزون عامة بأنهم حالمون.
الجسدي - الحركي: وهم يستخدمون قابليتهم البدنية بصورة ممتازة. يحبون الحركة ويتواصلون مع الآخرين من خلال لغة الجسد.
الموسيقي: يتميز من لديه هذا النمط من الذكاء بامتلاكه حسا مرهفا للنغم وللصوت بصورة عامة.
ذكاء ما بين الأفراد: حيث يبرعون في التفاهم مع الآخرين ولديهم قابلية التعاطف مع الآخرين كما أن لديهم العديد من الصداقات.
ذكاء دواخل الفرد: وهم عامة منعزلون ومتناغمون مع شعورهم الداخلي. كما يتميزون بحكمتهم وبالإرادة القوية وثقتهم بأنفسهم واستقلالية قرارهم.
اللغوي: وهم الذين يستخدمون الكلمة بكفاءة ويتميزون بحاسة سمعهم المرهفة وهم عادة يفكرون بالكلمات.
المنطقي – الرياضي: منطقيو التفكير ومحتسِبون يفكرون نظريا وتجريديا وهم قادرون على تمييز واستكشاف الأنماط والعلاقات. يحبون التجربة ويكثرون الاستفسار كما يقومون بالتعلم وابتداع مفاهيم قبل أن يتعاملوا مع التفاصيل.
إلا أن غاردنر لم يفد بأن الشخص الذكي مثلا (لغويا) سيكون غبيا قدر تعلق الأمر بالذكاء (البصري المكاني) أو أي نمط آخر من الذكاء, فقط أن ميزته هي امتلاكه تميزا ظاهرا في الناحية اللغوية. لذا شبه غاردنر الأمر بالتميز الرياضي. فالذي يحوز المرتبة الأولى بين أقرانه بالقفز العالي على سبيل المثال سيمتلك أيضا قدرة جيدة في ركض المائة متر أو في رمي الرمح. من هذا المنطلق اقترح غاردنر مقياسا للذكاء العام اعطاه الرمز (g) كمختصر لكلمة (general) . يجري حساب هذا المؤشر من اختبارات متعددة في مجالات مختلفة للوصول إلى المؤشر العام لذكاء الفرد والذي يعتبر أكثر دلالة على تميز الفرد مقارنة بمؤشر (IQ). من بين هذه المجالات التي يختبر فيها الفرد : المهارة في الرياضيات والطلاقة اللفظية والتخيل البصري والذاكرة.
إلا أن روبرت ستاينبرغ قدم نظرية أخرى[8] تعرف بنظرية المرتكزات الثلاث للذكاء (The Triarchic Theory of Intelligence ). تعرّف هذه النظرية الذكاء بأنه قابلية الشخص على تحقيق النجاح في الحياة من خلال استثمار امكانياته المتميزة ومن خلال تصحيح أو التعويض عن نقاط ضعفه. غير أن ذلك محدد حسب ما تنص النظرية بمعايير الشخص الأخلاقية وضمن السياقات الاجتماعية والثقافية السائدة. ويقول صاحب هذه النظرية أن إحراز أو تحقيق النجاح يعتمد على موازنة إمكانيات الفرد التحليلية (استشعار وتحليل الموقف وتشخيص المشكلة) والإبداعية (وضع الحل المناسب والطريقة الأنسب لتنفيذه) والعملية (تنفيذ الحل الذي ابتدعه الشخص). لاشك أن اختلاف معايير الأشخاص الأخلاقية له أثر كبير في سلوك الشخص لذا يصعب مقارنة ذكاء (ٍس) مع ذكاء (ًص) لأن معاييرهما الأخلاقية قد تكون متباينة جدا فما يتقبله س ولا يتورع عن الإتيان به, قد يراه ص أمرا منكرا يستحيل عليه أن يسلكه حتى إذا كانت السياقات الاجتماعية والثقافية السائدة ذاتها. لذا يبقى الرجوع إلى هذه الطريقة لتقييم ذكاء الإنسان بناء على نجاحه في الحياة أمرا غير موضوعي.
من غرائب الذكاء البشري:
كان زميلنا المرحوم الدكتور يوسف بهجت قطان قد فاز بلقب (bbc professor) في ستينيات القرن الماضي وهو تحد لم يحاوله أو ينله أحد لمدة 14 سنة قبل ذلك. يمنح ذلك اللقب لمن يحصل على عضوية كلية الأطباء الملكية الإنكليزية وزمالة كلية الجراحين الملكية الإنكليزية في امتحانين متتالين في نفس الفصل الدراسي. لكن زملاءه من الأطباء كانوا يتهامسون أن د. قطان لم يكن بذلك الطبيب البارع في تشخيص العلل المرضية. السبب هو أنه كان يتمتع بذاكرة فوتوغرافية (photomemory) تساعده على الحفظ ليس إلا. هذه حالة تشبه ما رواه لي أحد الأساتذة البريطانيين فيما يخص طالبا هنديا كان يدرس الكيمياء لديه. فقد شك أن ذلك الطالب قد غش في احد الأمتحانات لأنه كان قد أجاب على أحد اسئلة الامتحان بنص يطابق النص الموجود في الكتاب المقرر. غير أن الطالب عند استدعاءه وتعنيفه من قبل الأستاذ عما اعتبرة غش فاضح أجاب بقدرته على حفظ أي نص عن ظهر قلب بعد قراءته لمرة واحدة فقط. عند وضع ادعاءه هذا قيد الاختبار من قبل الأستاذ الذي روى لنا القصة أثبت الطالب صحة ما ادعاه.
كلنا يذكر (المرحوم؟) عادل شعلان الطالب في الصف الثاني أو الثالث المتوسط الذي قدمه لنا تلفزيون بغداد في الستينيات وكان يستطيع إعطاء ناتج أي عملية حسابية من ضرب أو قسمة أو استخرج جذر تربيعي وما إلى ذلك في ثواني واعتبر معجزة في الذكاء. بعد عقد أو عقدين سمعت من زميل له كان يعمل معنا في شركة نفط الشمال أن عادل شعلان لم يكن ذكيا في أي درس من الدروس وكان بالكاد ينجح. وحتى المسائل الرياضية التي تحتاج إلى بعض التفكير للوصول إلى حلها الصحيح كانت تستعصي عليه. إذن كانت قابليته الذهنية منحصرة في امتلاكه (حاسبة تنفذ العمليات الأربع وعمليات التربيع واستخراج الجذر) من النوع المبتذل ألان!
قبل مدة قرأت عن شاب بريطاني الجنسية من أصل أفريقي يأخذونه في سفرة بهيليكوبتر فوق أي مدينة ليعود إلى الأرض ويرسم منظر المدينة التي طار على ارتفاع منخفض فوقها بدقة تماثل دقة آلة التصوير الفوتوغرافية. هل نعتبر ذلك ذكاء؟ كما يذكر البعض في هذا المجال الفيلم الشهير (rainman) الذي يروي قصة شاب مصاب بمرض التوحد لكنه يستطيع أيضا حفظ دليل التلفون بعد قراءته مرة واحدة فقط. لكن ما هو الفرق بين التوحد والذكاء المفرط؟ ربما شعرة واحدة في تشبيك أسلاك المخ.
مما يروى عن الموسيقار النمساوي الشهير موتزارت أنه بدء يعزف على البيانو ألحانا من ابتداعه تتصف بوقع متناسق يعجب سامعيه وهو في الثالثة من العمر. وعندما بدء والده الموسيقار المحترف بعد سنة تعليمه العزف بصورة نظامية كان بمقدوره إعادة عزف إي تمرين ينفذه الوالد بعد سماعه له مرة واحدة فقط. في الخامسة من عمره بدء بتأليف مقطوعات موسيقية صغيرة كان أبوه يسجلها في ما أصبح يعرف بـ(Nannerl Notenbuch) وهو دفتر أعده الأب لتسجيل تمارين بالنوتة الموسيقية للأخت التي تكبر موتزارت بخمس سنوات. أما سيمفونيته الأولى فقد ألفها وهو في الثامنة من عمره سنة 1764. لا شك أن موتزارت كان يمتلك ذكاء (موسيقيا) حسب تصنيف غاردنر يفوق أي شيئ معروف.
أما عالم الرياضيات والفيزياء الإيرلندي ويليام روان هاميلتون (1805-1865)William Rowan Hamilton فقد تعلم العبرية وكان يقرأ نصوصا مدونة بها وهو في السابعة من العمر كما تعلم العربية والفارسية والسنسكريتية والسريانية واللاتينية والإغريقية إضافة إلى أربع لغات أوروبية حديثة وعمره لا يتعدى الثانية عشرة. لكن ذلك لم يمنعه من الإبداع في الرياضيات والفيزياء حيث صحح بعض نظريات نيوتن وترك مساهمات مهمة جدا في علم البصريات كذلك.
لا شك أن أمثلة من هذا النوع من (فلتات الذكاء) تملأ مجلدات لو أراد الباحث التدقيق في زوايا السرد التاريخي لحياة العلماء والمبدعين. وإذا ما كان من أبدع في العالم الغربي الحديث قد دونت سيرته وابداعاته فكم من مبدع فائق الذكاء يماثل موتزارت أو هاميلتون قد عرفت الإنسانية في غضون التاريخ أو في زوايا المعمورة ممن لم يسعفهم مدونو التاريخ؟
هل يختلف مستوى الذكاء لدى أجناس الإنسان المختلفة؟ :
يقودنا ما ذكر سابقا إلى التساؤل: هل هناك اختلاف في ذكاء الشعوب أو الأثنيات؟ قلنا في بداية البحث أن الذكاء هو نتيجة عوامل وراثية وأخرى بيئية. لذا سيكون هناك اختلاف بسبب الظروف البيئية إذا ما حاولنا مقارنة ذكاء الطفل الآلماني مثلا بالطفل المصري أو الهندي وخاصة إذا ما اعتمدت الاسئلة المعتمدة لاختبارات(IQ) النمطية. غير أن اختبارات أجريت لأطفال من أصول أثنية مختلفة يعيشون في نفس المجتمع بينت بعض الفروق كذلك. ربما تكون الحياة الأسرية للأطفال هي التي أثرت عليهم. لست عالما بيولوجيا أو انثروبولوجيا لكي أعطي رأيا أخالف فيه جمهرة المختصين الذين ينكرون وجود فروق جينية تسبب مثلا ذكاء متميزا لدى أطفال الجنس الأبيض أو الأثنية اليابانية مقارنة بالزنجية أو اللاتينية. لكن أسمح لنفسي أن أقارن بين أجناس البشر كما تجري المقارنة بين أجناس الكلاب مثلا أخذاً بنظر الاعتبار كون الكلاب من أكثر الأجناس الحيوانية التي تختلف سلالاتها وقد تكون أيضا الجنس الحيواني الذي يعرف عامة البشر طباعه أكثر من أي جنس آخر. ألا نرى أن هناك سلالات من الكلاب أمهر في تمييز الروائح من غيرها؟ كما أن سلالات أخرى أمهر في تتبع فرائص الصيد وهناك سلالة ثالثة تختص بصيد الجرذان مثل القطط وهكذا. ألا يدل كل ذلك على اختلاف ذكاء كل من هذه السلالات في نواحي معينة؟ من هذا المنطلق أتساءل (ولا استطيع الجزم طبعا) أليس من الممكن تباين ذكاء السلالات البشرية على نفس القاعدة البيولوجية التي تميز سلالات الكلاب؟ سؤال ليس غير.
قلنا أن جمهرة العلماء ينكرون وجود تفاوت في ذكاء الأجناس البشرية[9]لكن آخرون يدعون بتميز بعض الأجناس دون سواها. تميُز الجنس اليهودي بالذكاء كان ولا يزال أحد ما يعتقد به العديد من الآوروبيين إضافة إلى اليهود أنفسهم مستندين إلى نفوذ اليهود في العديد من المهن الذهنية (كالطب أو المحاماة). أولم يقل لهم يهوه (أنكم شعب الله المختار)؟. غير أن نقاء العنصر اليهودي الذي كان العديد من الناس من يهود وغيرهم قد أخذوا به كأمر مفروغ منه جرى إسقاطه كحقيقة علمية بواسطة اختبارات الـ( DNA) كما حولها أحد المفكرين اليهود أنفسهم إلى أسطورة[10]. لذا نعود إلى أن البيئة والحالة الاجتماعية ربما تكونان العامل الذي جعل اليهود كأقلية مضطهدة يسعون للتميز. رغم أن القول بتغلب العامل الوراثي في تحديد ذكاء الفرد هو السائد (كما أُسلف القول), إلا أن بعض المصادر[11] في حديثها عن أهمية البيئة مقارنة بالوراثة في تحديد ذكاء الفرد تقول "لقد عقّدت الاكتشافات الأخيرة هذا الجدل من خلال البرهان على أن اختلاف العلاقة بين العوامل الوراثية والعوامل البيئية لا يتباين بين المجموعات المختلفة من الناس فقط, إنما يتغير عبر الزمن بين أفراد المجموعة الواحدة ذاتها. فالجينات والبيئة يتفاعلان باستمرار, لذا تبقى قضية سيادة أحد العاملين مسألة غير محسومة". هذا يسوق إلى الاعتقاد بأن ما يتصوره الكثيرون ذكاء وراثيا لدى اليهود ليس إلا نتيجة الحالة الاجتماعية لأتباع هذه الديانة.
تطور مستوى الذكاء :
الظاهرة الأخرى فيما يخص الذكاء ادعاء البعض ان معدل ذكاء الجنس البشري في تدهور. يذهب أحد الباحثين[12]إلى أن السبب في ذلك هو طفرات وراثية غير حميدة تتراكم في الأجيال من البشر. هذا كما يقول الباحث ليس بالشيئ الجديد فهو يحدث لأي جنس حيواني على مر العصور. الجديد هو أن الانتقاء الطبيعي أو "البقاء للأنسب" بين الأفراد حسب ما وضحه داروين كان يؤدي عمله فيسمح للأنسب والأصح بدنيا وذهنيا من الجنس البشري بالبقاء فقط. إلا أن العلم الحديث الذي يساعد كل كائن بشري على البقاء بالوسائل الدوائية والجراحية وغيرها قد أودى بهذه الطريقة الطبيعية في الحفاظ على نوعية البشر وساعد على تفاقم نسبة الذين لا يتمتعون بمستوى ذكاء عالي. العامل الآخر فائق الأهمية في هذا الشأن والذي يودي إلى زيادة في الطفرات الوراثية هو المواد الكيميائية المستخدمة في حفظ وتحسين نكهة أو مظهر المواد الغذائية أو كمبيدات حشرية أو كهورمونات في الزراعة والصناعة والأغذية المصنعة من منتوجات زراعية معدلة جينيا وكلها ذات تأثيرات غير حميدة تسبب تدهور ذكاء الأجيال الحديثة.
لكن هل يعقل هذا؟ دعونا نستذكر مقدار التقدم الذي أحرزه البشر خلال القرن الماضي في المجال العلمي والصناعي وتسارع وتعمق هذا التقدم. كيف يمكن أن يحدث ذلك مع تراجع ذكاء الجنس البشري؟ تساؤل آخر فقط.
ماذا عن التطور المستقبلي للذكاء الإنساني؟ اقتبس في أدناه من بحث منشور في (Journal of Future Studies,September,2011) قدمه كل من (A.Saniotis and M. Hanneberg) من جامعة أديليد الأسترالية بعنوان التطور المستقبلي للدماغ الإنساني (The Future Evolution of The Human Brain) : " يشير التطور السابق للدماغ البشري إلى أن الميزة الرئيسية لهذا التطور لم تكن التغير التشريحي في طبيعة بنية الدماغ بل كانت التغير في بيوكيمياء الدماغ وفسلجة الدماغ من خلال تنظيم الهورمونات والناقلات العصبية. لقد تناقص حجم دماغ الإنسان في الماضي القريب أي خلال فترة التطور التكنولوجي المتسارع والتنظيمات الاجتماعية متزايدة التعقيد. لكنه, أي الدماغ, يقوم الآن بالتكيف مع البيئة التي يسيطر عليها التحكم البشري. أما تطور الدماغ المستقبلي فسيحدث نتيجة التلاعب الإدراكي والاستجابة للتكنولوجيات والتنظيمات الاجتماعية المتغيرة. غير أن المفكرون عبر-الأنسنة (transhumanist) ذوو التوجه التكنولوجي يرون في المستقبل تعزيزات مصطنعة للبيئة البيولوجية لدماغ الإنسان تستند إلى تكنولوجيا المعلوماتية."
في هذا المقطع نرى الإشارة إلى تناقص حجم الدماغ في الماضي القريب, أي في عصر التقدم التكنولوجي. هل يمكن أن يكون ذلك هو السبب في ما قيل عن تراجع ذكاء الإنسان؟ رغم أن نصا سابقا في هذه المحاضرة نسب الذكاء إلى كمية الدم المتدفقة إلى الدماغ وليس إلى حجمه. كما يعزو البحث تطور الدماغ (وتبعا لذلك الذكاء) إلى التغير في بيوكيمياء الدماغ وفسلجتة ثم يشير إلى احتمال تطوير الدماغ بالواسطة استجابة للتطور التكنولوجي ولتطور تكنولوجيا المعلوماتية. بعد ذلك يستطرد الباحثان ذاكرين التلاعب بالمشاعر والتخيل لدى الإنسان بواسطة العقاقير. من هذا المنطلق يلمحان إلى امكانية استخدام العقاقير للتأثير على دماغ الإنسان. إنا شخصيا أشعر بالقلق من إمكانية امتلاك (دماغ معزز) بالواسطة أكان ذلك لي أو لأي إنسان آخر.
الإنسان والذكاء الاصطناعي, إلى أين؟ :
غير أن ما يثير القلق أكثر من حيازة (دماغ معزز) هو الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) أو ببساطة (AI) لدى الألات والحواسيب وما يمكن أن ينشأ عنه. مَن وَضع هذا التعبير هو عالم الحاسوب الأمريكي جون ماكارثي سنه 1955 وقصد به النظم الحاسوبية القادرة على إداء مهمات تحتاج عادة إلى ذكاء الإنسان مثل الإدراك البصري والتعرف على الكلام واتخاذ القرار. منذ ذلك التاريخ تطورت هذه النظم بحيث وصلنا إلى سيارات تقوم بقيادة نفسها لتصل من النقطة (آ) إلى النقطة (ب) دون تدخل الإنسان عدا اعطاءه الأمر.
الذكاء الاصطناعي بهيئته الحالية المستخدمة يوصف بـ(الضيق) لأنه مقتصر على مهمة واحدة مثل قيادة السيارة أو لعب الشطرنج. أثر هذا الجيل من أنظمة الذكاء الاصطناعي على المجتمع كبير جدا واستخداماته في تزايد. لكن هدف العلماء هو تطوير الذكاء الاصطناعي ليصبح ذكاء اصطناعيا شاملا ويدعونه (Artificial General Intelligence) أو (AGI). مثل هذا التطور إذا ما استمر قد يوصلنا إلى حواسيب يفوق ذكاءها ذكاء الإنسان كما يتصور بعض الباحثين. هذا إذن السبب الذي دفع بعضهم لاقتراح تعزيز الذكاء لدى الإنسان (استجابة للتطور التكنولوجي ولتطور تكنولوجيا المعلوماتية) والذي أبديت هلعي منه.
ولما ذكرنا الذكاء الاصطناعي وإمكانية تغلبه على الذكاء الإنساني فمن المناسب مراجعة ما يتصوره الأختصاصيون حول هذه الإمكانية. اقتبس في هذا المجال من بحث قدمه ماكس تبغمارك (Max Tegmark) رئيس معهد مستقبل الحياة[13] حيث يقول إن السؤال المهم على المدى البعيد هو ماذا سيحدث إذا ما نجح AGI وأصبح أفضل من الذكاء الإنساني في النواحي الإدراكية؟ فمثل هذا النظام سيتمتع بخاصية التحسين الذاتي التكرارية التي قد تقدح زناد انفجار الذكاء الاصطناعي بحيث يترك الإنسان وراءه! ربما يتمكن هذا الذكاء الخارق من اختراع تقنيات ثورية جديدة تساعد في القضاء على الحروب والأمراض والفقر ويكون ذلك أكبر حدث في تاريخ البشرية غير أن باحثين آخرين يخشون أن (يتمرد) هذا الذكاء على مصمميه ويؤدي إلى هلاك اليشرية ما لم نتعلم كيف ننسق أهدافه مع أهدافنا قبل أن يصبح ذا إمكانية خارقة.
لكننا لم نبين رأي هؤلاء المختصين حول احتمالية وتوقيت تطور الآنظمة الحاسوبية إلى هذا الواقع وهل ان ذلك ممكن فعلا أو أنه أحدى صفحات رواية في الخيال العلمي؟ يقول تيغمارك إن واحدة من الأساطير السائدة تدعي أننا سنحصل على ذكاء اصطناعي يفوق الذكاء الإنساني خلال هذا القرن. لكنه يضيف قائلا أن التاريخ ملئ بافتراضات تكنولوجية مفرطة التفاؤل. أين تلك المحطات التي تعمل يالاندماج النووي وتلك السيارات الطائرة التي يجب حسب تلك الافتراضات أن تكون معنا الآن؟................... لكنه يعود ليقول أنه من ناحية ثانية لا ينفي حدوث ذلك فبعض تنبؤات أساطين العلم كانت على عكس التفاؤل المفرط متشائمة بدرجة مضحكة. خذ مثلا ما قاله إرنست رذرفورد (Ernest Rutherford) سنة 1933 وهو عميد فيزيائيي الذرة في زمنه فقد أجاب على سؤال حول إمكانية تسخير الطاقة النووية فقال (إن مثل ذلك الاعتقاد ليس سوى هراء) وبعد يوم واحد فقط أعلن ليو زيلارد (Leo Szilard)عن توصله إلى التفاعل النووي التسلسلي (Nuclear Chain Reaction) الذي أوصلنا إلى القنبلة النووية ومحطات توليد الكهرباء النووية!
هل سيغلب غرور الإنسان ذكاءه؟ :
ما بين هذا وذاك سيبقى ذكاء الإنسان المحرك الأكثر فاعلية على كوكب الأرض وهو الذي أتاح لذلك المخلوق الذي تطور إلى هيئته التي نرى أنفسنا فيها الآن السيادة على بقية مخلوقات الله في أرضه الواسعة. لم تتحقق هذه السيادة بقوه عضل الإنسان بل تحققت بفضل ذكاء هذا المخلوق الفريد الذي انتشر من موطنه الأصلي الذي يقول المختصون أنه كان في الهضبة الأثيوبية ليستعمر كافة أصقاع الأرض تقريبا متكيفا مع المناخ والبيئة ويتكاثر أفراده بدرجة لم تبلغها أي من فصائل الحيوانات اللبونة الأخرى ويتعايش مع بقية الأنواع الحيوانية مدجنا لها ليفترسها أو ليسخرها لمنفعته أو طاردا لها من جواره إذا لم يستطع تهجينها. أما مغ بعضه البعض فقد عاش في مجموعات ما فتأت تزداد تعدادا حتى اصبحت مدنا عظمى تعد بضعة عشر مليونا في بعض الأماكن. سبق ذلك تكتله في عشائر وقبائل وممالك ودول غير أن كل ذلك لم يجرِ بيسر وبمسيرة سلمية فقد سخر ذكاءه للقتل والفتك بأفراد جنسه على المجال الفردي أو من خلال تجمعاته بطرق ندعوها وحشية رغم أن الوحوش ذاتها تنأى عن ممارستها مع بني نوعها. قام في سبيل ذلك مستغلا هذا الذكاء الذي وهبه الله لتطوير أسلحة ما زال فتكها يتعاظم حتى تكاد لو استخدمها فعلا غلى نطاق واسع تنهي الحياة بأصنافها المختلفة على كوكب الأرض. وأغرب ما في الأمر أن هذا الذكاء لم يهده إلى طريقة يتعايش بها مع بعضه البعض بسلام, لا بل رأينا وسمعنا من الفظائع ما ابتكر لها من تسميات مثل (الحروب الطاحنة) و (أسلحة الدمار الشامل) و(التطهير العرقى) و (الإبادة الجماعية). ومع ذلك لم تثنه هذه النزاعات عن القيام بتكييف البيئة لمصلحته مشيدا نُصبا وطرقا وهياكل غيرت وجه الأرض فشاد السدود معترضا تدفق أنهارها العظمى ليجمع مياهها وليولد منها طاقة وثقب الجبال ليتخذ فيها مسالك كما نبشها ليزرع فيها قوته إنما بطرائق ظالمة استهلكت تربتها في العديد من المواقع ونقّب في أعماقها باحثا عما يستفيد منه في تلك الأعماق وحلّق يسافر في أجواءها ملوّثا بأسفاره تلك وبما يحرقه على يابستها في تلك الماكنات التي ابتدعها بفضل ذكاءه تلك الأجواء بعد أن لوّث البراري والبحار حتى وصل الأمر إلى حدود تحمّل امكانيات هذا الكوكب الجبار رغم وفرتها الهائلة مما دفع بعقلاءه إلى التحذير بما لا تحمد عقباه إذا ما لم يستفق ذكاءه من نشوة الانتصار على بقية خلق الله وعلى البيئة والأرض ذاتها ليعود أدراجه إلى حيث يعالج ما جنته يداه ويحاول تحقيق التوازن مع بيئة الكوكب التي اعتقد أنه غلبها. لكن هيهات فذكاء الطبيعة أقوى من ذكاءه وما عليه إلا أن يتناغم معها ويتخلى عن غروره المهلك.
صباح صدّيق الدملوجي
عمان في 29 تشرين ثاني 2016
-------------------------------------------------------------------------------------------
المصادر :ـ
[1] -- See: Genetic and Environmental Impacts on Intelligence - Boundless
https://www.boundless.com › ... › Intelligence › Introduction to Intelligence
[2] -- إنظر مثلا :How Intelligence is Inherited from Mothers - Uplift
upliftconnect.com/intelligence-inherited-mothers/
[3] -- See: Smarter brains are blood-thirsty brains - University of Adelaide
https://www.adelaide.edu.au/news/news87342.html
[4] -- Where in the brain is intelligence? - Dana Foundation
www.dana.org/News/Details.aspx?id=42795
[5] -- المصدر السابق.
[6] -- See: Secrets of the human brain unlocked - University of Warwick
https://www2.warwick.ac.uk/newsandevents/news/secrets_of_the/
www.tecweb.org/styles/gardner.htm في Gardner's Multiple Intelligences –أنظر: [7]
[8] See: Triarchic theory of intelligence - Wikipedia, the free encyclopedia
https://en.wikipedia.org/wiki/Triarchic_theory_of_intelligence
[9] -- See: Scholarly articles for created equal race genes and intelligence
Genetics of brain structure and intelligence, By William Saletan - Toga
8-- أنظر: كتاب «اختراع الشعب اليهودي», المركز الفلسطيني للدراسات «الإسرائيلية» (مدار) عن منشورات المكتبة الأهلية في عمان ومن تأليف البروفسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ في «جامعة تل أبيب»..
[11] -- See: Genetic and Environmental Impacts on Intelligence, .” Boundless Psychology. Boundless, 20 Sep. 2016. Retrieved 30 Oct. 2016 from https://www.
[12] -- Leading Geneticist: Human Intelligence is Slowly Declining |
naturalsociety.com/leading-geneticist-human-intelligence-slowly-declining/
[13] -- Benefits & Risks of Artificial Intelligence, Max Tegmark, President of the Future of Life Institute, futureoflife.org/background/benefits-risks-of-artificial-intelligence