الجراثيم صديقة أم عدوة للبشر؟
د. أحمد ذياب
عليك أن توضّح موقفك نهائيا من هذه الجراثيم... هل هي صديقة للإنسان أم هي عدوة له؟
هكذا كتب إليّ، بعد أن كان قرأ مقالي الأخير عن فيروس الكرونا وما يمثّله من خطر علينا اليوم، وقد كنت تعرّضت في نفس المقال إلى تلك المليارات من الجراثيم الصديقة للبشر، والتي من دونها لا يمكن للبشر أن يعيش أو يدافع عن نفسه. هذه الجراثيم التي تمثل عددا يتجاوز خلايا جسمنا. هذه الجراثيم المتوزعة أساسا بين المعي الغليظ لتكون الحديقة المعوية (MICROBIONTE) وما أجمل هذا اللفظ! هذه المجموعة التي لا بدّ لها من أن تتواجد وحتى لو حاولنا محوها بواسطة المضادات الحيوية وبواسطة جميع المبيدات التي نتناولها حين نمرض.. تستعيد عددها ووظيفتها في حماية الجسم... هي جيش للجسم.. يتعايش مع البشر منذ ملايين السنين بعد أن احتله!! أو فتحه على وجه أصح.
فحين نقول فتحه نحن نتكلّم عن جيش حلّ بموطن حاملا معه حضارة ونفعا، حاملا فوائد جمّة ومنها حمايتنا من بعض السرطانات بصورة مباشرة وبصور غير مباشرة... لأنها تمنع الالتهاب بجميع أنواعه أو هي تلعب دور مضاد الالتهاب حين لا نتناول مضادا للالتهاب ونشفى (!) من التهاب كاد يُلهب المعي ويُلهب الرئة والدماغ ليتحوّل عند تكراره إلى ورم حميد وقد يتحوّل إلى قصص غامضة لخلايا مجنونة، فتتحول الخلايا المجنونة هذه إلى سرطان خبيث لا محالة.
هذه الجراثيم تتجمّع يا سيدي وصديقي، بالمعي خاصة.. لكنّها تتواجد كذلك بالجهاز التنفسي وخاصة بالمداخل ممثلة درعا حاميا وتتواجد بأغلب أعضائنا، جنودا على أتمّ الاستعداد للدفاع عن البشر.
كنت ذكرت كذلك أنّ هذه الجراثيم تواجدت على سطح الأرض من أربعة مليارات من السنين. بمعنى أنها سكنت الأرض قبل الإنسان... وهي التي احتلت جسم الحيوان والإنسان هذا الحيوان الناطق المفكّر!! واحتلت النبات كذلك والهواء والمحيط وكلّ البحار والأودية.
لها رغبة في الحياة...
لها حلم مثل حلم الإنسان: أن تعيش وتتكاثر.
لها حلم الإنسان في فتح مساحات أكبر فأكبر.
لها.... لها..
عند هذا الحدّ قاطعني صديقي ليعيد سؤاله: كيف نفرّق بين الكرونا الذي أقض مضجعنا وهدّد يومنا وقضى على اقتصاد دول ثرية وعلى عقول أصحاب مخابرها المتقدمة، وبين هذه الجراثيم الصديقة النافعة بل الضرورية للإنسان؟
يقول بعض الفلاسفة إنّك إذا رغبت إمداد غيرك بشرح يفهمه ويتخلّل عصابينه ومشابكه العصبية فعليك أن تخاطبه بلغته، اللغة التي اعتاد النطق والحديث ومخاطبة الغير بها.
حاولت حينئذ تغيير الموضوع حتى أجد ما أسدّ به رمق جوعي باحثا عما قد يفيده وسألته:
هل يمكنك أن تشرح لي يا صديقي كيف للبونيين حلوا من سواحل لبنان بهذا الساح التونسي وبصقلية وبمالطا من ثلاثة آلاف سنة وبقيت تونس تتكلم اللغة البونية (القرطاجية) إلى حدود القرن الخامس ميلادي أي طيلة خمسة عشر قرنا؟
كيف بالبونيين هؤلاء حلوا من صور المشرقية ليجدوا أحفاد الكبسيين والأمازيغ ولم يطردوا ويجدوا فيما بينهم مع أهل البلاد قواسم مشتركة من لغات انحدرت كلها من الكنعانية وبقيت تكتب بأشكال قريبة جدا من بعضها البعض، أو هكذا يبدو من الدراسات المقارنة للغات أو اللهجات الأمازيغية والبونية والعربية؟
كيف نزل الرومان بهذا البلد ليحرقوا قرطاج بعد حروب ثلاثة ويزرعوا أرضها ملحا بعد أن كاد حنبعل يهزم روما في عقر دارها؟ وكيف اضطرّ الروم إلى مغادرة البلاد؟
كيف عبر الوندال مضيق جبل طارق في 429 م وسيطروا سريعا على مدينة قرطاج حيث اتّخذوها عاصمة لهم. وكيف حاولوا مساعدة البربر والسبب في ذلك أن ّهؤلاء كانوا ينفرون من سلطة روما ويطمحون إلى الاستقلال. فقد مثّل الروم محتلّين بعسكرهم وفلسفتهم..
وكيف بدأت مناوشات بين الوندال والممالك البربريّة المتاخمة للدولة وانهزم الوندال سنة 530 م وهو الأمر الذي شجّع بيزنطة على القدوم لطرد الوندال؟
كيف للإسبان حلوا كذلك بهذه البلاد ليهزموا ويغادروا البلد؟ ويمكن كذلك أن نطرح نفس السؤال على عرب ومسلمين دخلوا جنوب إيطاليا وعاشوا بالأندلس قرونا ثم غادروا إيطاليا وغادروا الأندلس؟
كيف بالعرب والمسلمين بصورة عامة حلوا بهذه البلاد ليبقوا إلى اليوم؟ هل كانوا محتلين أم فاتحين؟ حملوا معهم لغة هي توأم للغة الأرامية السريانية وحفيدة جنوبية للغة الكنعانية أي أنها قريبة جدا من الأمازيغية ومن اللغة البونية القرطاجية؟
لذلك يا صديقي فعندما كنت ذكرت لي أن حنبعل كان يتكلم عدة لغات هو في الواقع كان يتكلم عدة لغات قريبة من بعضها البعض.
لماذا يا صديقي حل الفرنسيون بهذه المنطقة لأكثر من مائة سنة ثم اضطروا للمغادرة بعد حروب ديبلوماسية وأخرى خلفت مليونا ونصف المليون من الشهداء؟
بعد هذا السيل من الأسئلة التي طرحتها، ابتسم صديقي وقد كان أستاذا في التاريخ والجغرافيا، وأجزم أنّه، إنّما فهم جيّدا كيف يمكن لشعوب قريبة من بعضها البعض ألاّ تكون غير صديقة وتتعايش، وأخرى غير منافسة بل وعدوة، وأن تكون، في نفس السياق، كتلة من الجراثيم صديقة للإنسان مفيدة بل وضرورية وأخرى عدوة له..
والأهمّ من كلّ هذا يا صديقي، أنّ تعلم أن الفيروس يعيش متطفّلا على غيره: لا يمكنه أن يتكاثر إلاّ متى وجد أرضية منبتة يعيش بداخلها. والخلية التي تُستعمر من لدن الفيروس، هي خلية لها قابلية الاستعمار.. مثلها مثل بعض شعوب الأرض. ومثلها مثل البشر. هناك شعوب لها قابلية الاستعمار داخليا وخارجيا وهناك بشر لهم قابلية الاستعمار... وهناك بشر كذلك مثله مثل الفيروس لا يعيش إلاّ متطفّلا يقتات من غيره... ويعوّل عليه.
التعليق بارسال ايميل الى
[email protected]
الصفحة الرئيسية
د. أحمد ذياب
عليك أن توضّح موقفك نهائيا من هذه الجراثيم... هل هي صديقة للإنسان أم هي عدوة له؟
هكذا كتب إليّ، بعد أن كان قرأ مقالي الأخير عن فيروس الكرونا وما يمثّله من خطر علينا اليوم، وقد كنت تعرّضت في نفس المقال إلى تلك المليارات من الجراثيم الصديقة للبشر، والتي من دونها لا يمكن للبشر أن يعيش أو يدافع عن نفسه. هذه الجراثيم التي تمثل عددا يتجاوز خلايا جسمنا. هذه الجراثيم المتوزعة أساسا بين المعي الغليظ لتكون الحديقة المعوية (MICROBIONTE) وما أجمل هذا اللفظ! هذه المجموعة التي لا بدّ لها من أن تتواجد وحتى لو حاولنا محوها بواسطة المضادات الحيوية وبواسطة جميع المبيدات التي نتناولها حين نمرض.. تستعيد عددها ووظيفتها في حماية الجسم... هي جيش للجسم.. يتعايش مع البشر منذ ملايين السنين بعد أن احتله!! أو فتحه على وجه أصح.
فحين نقول فتحه نحن نتكلّم عن جيش حلّ بموطن حاملا معه حضارة ونفعا، حاملا فوائد جمّة ومنها حمايتنا من بعض السرطانات بصورة مباشرة وبصور غير مباشرة... لأنها تمنع الالتهاب بجميع أنواعه أو هي تلعب دور مضاد الالتهاب حين لا نتناول مضادا للالتهاب ونشفى (!) من التهاب كاد يُلهب المعي ويُلهب الرئة والدماغ ليتحوّل عند تكراره إلى ورم حميد وقد يتحوّل إلى قصص غامضة لخلايا مجنونة، فتتحول الخلايا المجنونة هذه إلى سرطان خبيث لا محالة.
هذه الجراثيم تتجمّع يا سيدي وصديقي، بالمعي خاصة.. لكنّها تتواجد كذلك بالجهاز التنفسي وخاصة بالمداخل ممثلة درعا حاميا وتتواجد بأغلب أعضائنا، جنودا على أتمّ الاستعداد للدفاع عن البشر.
كنت ذكرت كذلك أنّ هذه الجراثيم تواجدت على سطح الأرض من أربعة مليارات من السنين. بمعنى أنها سكنت الأرض قبل الإنسان... وهي التي احتلت جسم الحيوان والإنسان هذا الحيوان الناطق المفكّر!! واحتلت النبات كذلك والهواء والمحيط وكلّ البحار والأودية.
لها رغبة في الحياة...
لها حلم مثل حلم الإنسان: أن تعيش وتتكاثر.
لها حلم الإنسان في فتح مساحات أكبر فأكبر.
لها.... لها..
عند هذا الحدّ قاطعني صديقي ليعيد سؤاله: كيف نفرّق بين الكرونا الذي أقض مضجعنا وهدّد يومنا وقضى على اقتصاد دول ثرية وعلى عقول أصحاب مخابرها المتقدمة، وبين هذه الجراثيم الصديقة النافعة بل الضرورية للإنسان؟
يقول بعض الفلاسفة إنّك إذا رغبت إمداد غيرك بشرح يفهمه ويتخلّل عصابينه ومشابكه العصبية فعليك أن تخاطبه بلغته، اللغة التي اعتاد النطق والحديث ومخاطبة الغير بها.
حاولت حينئذ تغيير الموضوع حتى أجد ما أسدّ به رمق جوعي باحثا عما قد يفيده وسألته:
هل يمكنك أن تشرح لي يا صديقي كيف للبونيين حلوا من سواحل لبنان بهذا الساح التونسي وبصقلية وبمالطا من ثلاثة آلاف سنة وبقيت تونس تتكلم اللغة البونية (القرطاجية) إلى حدود القرن الخامس ميلادي أي طيلة خمسة عشر قرنا؟
كيف بالبونيين هؤلاء حلوا من صور المشرقية ليجدوا أحفاد الكبسيين والأمازيغ ولم يطردوا ويجدوا فيما بينهم مع أهل البلاد قواسم مشتركة من لغات انحدرت كلها من الكنعانية وبقيت تكتب بأشكال قريبة جدا من بعضها البعض، أو هكذا يبدو من الدراسات المقارنة للغات أو اللهجات الأمازيغية والبونية والعربية؟
كيف نزل الرومان بهذا البلد ليحرقوا قرطاج بعد حروب ثلاثة ويزرعوا أرضها ملحا بعد أن كاد حنبعل يهزم روما في عقر دارها؟ وكيف اضطرّ الروم إلى مغادرة البلاد؟
كيف عبر الوندال مضيق جبل طارق في 429 م وسيطروا سريعا على مدينة قرطاج حيث اتّخذوها عاصمة لهم. وكيف حاولوا مساعدة البربر والسبب في ذلك أن ّهؤلاء كانوا ينفرون من سلطة روما ويطمحون إلى الاستقلال. فقد مثّل الروم محتلّين بعسكرهم وفلسفتهم..
وكيف بدأت مناوشات بين الوندال والممالك البربريّة المتاخمة للدولة وانهزم الوندال سنة 530 م وهو الأمر الذي شجّع بيزنطة على القدوم لطرد الوندال؟
كيف للإسبان حلوا كذلك بهذه البلاد ليهزموا ويغادروا البلد؟ ويمكن كذلك أن نطرح نفس السؤال على عرب ومسلمين دخلوا جنوب إيطاليا وعاشوا بالأندلس قرونا ثم غادروا إيطاليا وغادروا الأندلس؟
كيف بالعرب والمسلمين بصورة عامة حلوا بهذه البلاد ليبقوا إلى اليوم؟ هل كانوا محتلين أم فاتحين؟ حملوا معهم لغة هي توأم للغة الأرامية السريانية وحفيدة جنوبية للغة الكنعانية أي أنها قريبة جدا من الأمازيغية ومن اللغة البونية القرطاجية؟
لذلك يا صديقي فعندما كنت ذكرت لي أن حنبعل كان يتكلم عدة لغات هو في الواقع كان يتكلم عدة لغات قريبة من بعضها البعض.
لماذا يا صديقي حل الفرنسيون بهذه المنطقة لأكثر من مائة سنة ثم اضطروا للمغادرة بعد حروب ديبلوماسية وأخرى خلفت مليونا ونصف المليون من الشهداء؟
بعد هذا السيل من الأسئلة التي طرحتها، ابتسم صديقي وقد كان أستاذا في التاريخ والجغرافيا، وأجزم أنّه، إنّما فهم جيّدا كيف يمكن لشعوب قريبة من بعضها البعض ألاّ تكون غير صديقة وتتعايش، وأخرى غير منافسة بل وعدوة، وأن تكون، في نفس السياق، كتلة من الجراثيم صديقة للإنسان مفيدة بل وضرورية وأخرى عدوة له..
والأهمّ من كلّ هذا يا صديقي، أنّ تعلم أن الفيروس يعيش متطفّلا على غيره: لا يمكنه أن يتكاثر إلاّ متى وجد أرضية منبتة يعيش بداخلها. والخلية التي تُستعمر من لدن الفيروس، هي خلية لها قابلية الاستعمار.. مثلها مثل بعض شعوب الأرض. ومثلها مثل البشر. هناك شعوب لها قابلية الاستعمار داخليا وخارجيا وهناك بشر لهم قابلية الاستعمار... وهناك بشر كذلك مثله مثل الفيروس لا يعيش إلاّ متطفّلا يقتات من غيره... ويعوّل عليه.
التعليق بارسال ايميل الى
[email protected]
الصفحة الرئيسية