حاشا أهل الموصل أن تُلصقَ بهم صفة البخل
سمير سعيد
قال تعالى :ـ
ـ "ولا تَجْعلْ يَدَكَ مَغلولَةً إلى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْها كُلَّ البَسْطِ فَتقعُدَ مَلوماً مَحْسُورا ". وصدق الله العظيم . ـ
فالصفة ألأولى هي البخل والثانية الإسراف فأوصى الله المسلم ان يسلك طريقا وسطا بين هاتين الصفتين الكريهتين هو طريق الاقتصاد المنظم والمعقول . الاقتصاد يعني المحافظة على الأموال وعدم بعثرتها على أشياء تافهة وهي اذن فضيلة ولكنها من الفضائل المكروهة في زمن تطغى عليه الإعلانات التجارية التي تشجع الناس على الاستهلاك المجنون والحفلات ومآدب الطعام والبذخ الماجن بحجة قتل أوقات الفراغ المملة
في الموصل ونحن أطفال تعلمنا من اهلنا ان نقتصد جزءاً من مصروفنا والعيديات التي نحصل عليها ونضعها في القازة الفخارية بدل بعثرتها على لعب تتكسر في يوم او يومين وترمى في الزبالة، وكان الهدف دوما ان اليوم سيأتي ويكون عندنا مبلغ من المال يكفي لشراء شيئ ثمين نحلم بالحصول عليه كدراجة هوائية مثلا. علما بأن الوالد يمكنه شراء الدراجة دون حاجته لمدخراتنا ولكن هذا الدرب سار عليه الوالد حين كان طفلا وجعلنا نتبعه في طفولتنا.ـ
تكثر النكات حول بخل الموصليين وان المجتمع الموصلي كله بخيل ، وتأتي هذه النظرة من شريحة تافهة لا تمتلك صفات حميدة وتعتقد ان كل من يملك هذه الصفات هو شخص مذموم فالمسرفين والمبذرين ينظرون للمقتصد الموصلي بأنه بخيل .. فأذن هو مذموم . وقد غابت عنهم حقيقة ان المقتصد الموصلي يعلم بدقة متناهية قيمة الدينار على عكس البخيل الذي يرى الدينار أعلى بكثير من سعره الحقيقي لذا لا يريد مفارقته والمسرف يرى الدينار أقل من قيمته لذلك لا يرى ضيرا في بعثرته . ان صفة البخل التي الصقوها بالموصلي انعكس معناها لتدل على ألعمل الدؤوب المخلص وحسن الإدارة في المعاملات التجارية والمالية والسعي الدائم للنجاح لذا نرى الموصليين قد حققوا نجاحات مميزة على كافة أصعدة الدولة العراقية سواء المدنية منها كوزراء ورؤساء وزارات وأساتذة وأطباء ومهندسين او العسكرية كقواد مشهورين يشار لهم بالبنان . فالموصلي محمد حديد كان اكفأ وزير مالية في العراق وابنته السيدة زهى محمد حديد تعتبر الان اشهر معمارية في العالم وقد قلدتها ملكة بريطانية وسام الفروسية وهي الشخصية العراقية الوحيدة التي تحصل على هكذا تكريم . العناية بالمال وتوفيره من قبل طفل لشراء دراجة هوائية في المستقبل او من قبل عائلة لبناء بيت جديد اصبح السمة السائدة في المجتمع بالرغم من هذه النكتة الدالة على التوفير والتي تروى من قبل الموصليين انفسهم : عاد الزوج من عمله وهو يلهث ، سألته زوجته لماذا تلهث قال لها لقد وفرت اربعة عشر فلسا فبدلا من ركوب الباص ودفع أربعة عشر فلسا ركضتُ وراء الباص ووصلنا البيت سوية . أظهرت الزوجة ارتياحها لما فعله زوجُها ولكنها لم تبدِ حماسا ملحوظا فسألها زوجُها عن سبب برودِها ، قالت له لو كنت قد ركضت وراء تاكسي لكان التوفير اكثر بكثير.ـ
أذكر أيام شبابنا في عقد الخمسينات والستينات من القرن الماضي كان الشاب اذا اكل في المطعم يعتبر قد ارتكب خطأ يحاسب عليه لان الأكل النظيف واللذيذ موجود في البيت فلماذا يأكل في المطعم . فالمطاعم هي للقادمين من خارج لواء الموصل لإنجاز معاملاتهم في دوائر اللواء وليست لشباب الموصل . خاصة إذا علمنا أن تسعة أقضية وعشرة نواحي كانت تابعة للموصل الأقضية هي : زاخو ودهوك والعمادية وعقرة والزيبار وتللعفر وسنجار والشيخان وقضاء الموصل والنواحي هي : حمام العليل ألشوره الشرقاط تلكيف القوش برطلة قرةقوش والحميدات وبعشيقة ، وكانت المدينة تزخر بالقادمين منها لمراجعة دوائر اللواء وكلهم يرتادون مطاعم الموصل.ـ
العتب على الشاب الذي يأكل خارج بيته له ما يبرره من الناحية الاقتصادية والناحية الصحية ، فالوجبة في البيت تكلفتها سعر المواد الداخلة في الوجبة زائدا تكلفة وقود الطبخ والوالدة الحنون يسعدها ان تتعب كي ترى أولادها يأكلون ما صنعت يديها ، اما في المطعم فسعر وجبة الطعام تشمل تكلفة المواد الأولية زائدا الوقود زائدا رواتب العاملين : طباخين ومنظفين وخدم ، زائدا إيجار المطعم زائدا فواتير الماء والكهرباء زائدا الربح الذي يستحقه صاحب المطعم . ومن الناحية الصحية فالشاب لا يعلم جودة المواد الداخلة في الطبخ ومدى صلاحيتها ونظافتها . وفي تلك الأيام لم يكن الأكل في المطعم مع مجموعة من الأصدقاء يعتبر ظاهرة اجتماعية ممتعة وضرورية كما ينظر لها هذه الأيام.ـ
أعتمد أهل الموصل نظام المونة أي تخزين كميات كبيرة من الأغذية الضرورية التي لا تتلف خلال فترة التخزين التي عادة ما تكون سنة كاملة ، يتم ذلك بشراء كميات تقدر بالأطنان أو أنصاف أو أرباع الأطنان وخزنها في أوعية فخارية توضع في سرداب البيت ، أمثله على ذلك : السكر والشاي والحنطة والرز والدهن وزيت السمسم او الطحينية والعدس . إضافة لذلك كان هناك مفردات اُخرى تُصَنّع منزليا ، كمعجون الطماطم والبرغل الناعم والخشن والرشتة وأنواع المخللات والطرشي والبامية اليابسة . السبب الرئيسي لهذا الاعتماد هو الخوف من المجهول وسبب ثانوي معنوي يدلل على وجاهة الأسرة ومكانتها الاجتماعية . عانت الموصل خلال تاريخها الطويل من مجاعات عديدة وأمراض فتاكة وكان آخرها المجاعة التي حصلت في نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1917 حيث انعدمت الأغذية ، واضطر الناس لأكل لحوم القطط والكلاب ، ومات الكثير جوعا . وحصلت خلال المجاعة فاجعة يذكرها الكبار الذين عايشتهم وهي فاجعة عبود وزوجته ، كانا يستدرجان أطفالا إلى بيتهم ثم يذبحوهم ويقلون لحمهم بالدهن ويبيعوه للناس ، وبعد ان أُكتشف أمرهم اعترفا بالجريمة وشُنقا في باب الطوب . هذه المجاعة بقت عالقة في أذهان الموصليين فاعتمدوا نظام المونة وذلك خوفا من ان تتكرر المجاعة . السبب الثاني والأقل أهمية هو الشعور بالوجاهة ، حتى اعتبروا عيبا من يذهب للبقال دائما لشراء كيلو واحد من السكر او الدهن او العدس . اما من الناحية الاقتصادية فالشراء بالجملة يكون أرخص من الذهاب للبقال عشرات المرات لشرائه بالمفرد.ـ
بعد ان عرَّفنا البخل والإسراف والاقتصاد نأتي إلي الكرم الموصلي وهو صفة شاملة لأهل الموصل لا صلة لها بالإسراف أو الاقتصاد فالموصلي يبالغ في كرمه للضيف او للمحتاج والفقير وشرطه الوحيد ان يكون الضيف او الفقير المحتاج يستحق الكرم وحجته في ذلك قول المتنبئ :ـ
ـ أذا انت أكرمت الكريم ملكته وان انت أكرمت اللئيم تمردا
لا يقتصر تكريم الضيف على تقديم وجبات الأكل فقط بل يكون مصحوبا بحفاوة وبشاشة شديدين كي يشعر الضيف انه مرحب به وليس ضيفا ثقيلا عليه . أذكر في شبابي أننا انتقلنا إلي بيت جديد في محلة الطيانة التي تفصلها بساتين حسيبة عن قصر وجامع عجيل الياور . كان الأثاث مكدسا في الحوش وجلسنا برهة ونحن جياع ومرهقين كي نرتاح ثم نقوم بإدخال الأثاث الخاص بكل غرفة . سمعنا طرقا على الباب ففتحناه لنجد شيخا وقورأ يقول : انا سيد مولود ساكن البيت الكبير في هذا الشارع فرحب بنا ترحيبا حارا ثم فسح المجال لصِبْيةٍ كانوا خلفه يحملون صواني مملوءة بأصناف الطعام . أكلنا حتى شبعنا واستمر طرق الباب في اليوم الثاني والثالث وتقديم صواني الإفطار والغداء والعشاء حتى لم يبق بيت في الشارع لم يقدم لنا الطعام ، وشعرنا باننا عرفنا الجميع منذ سنوات وليس لايام ثلاثة فقط.ـ
أختتم مقالي هذا بشهادة الكاتب السوري عبد الحكيم الانيس حين كتب في وصف الموصل وأهلها
عبد الحكيم الأنيس
ذُكر عدد من المدن بالبخل ، ونبز أهلها بالبخلاء ، وفي العراق تُذكر مدينة الموصل بذلك ، ويتداول العراقيون نكتا عن أهلها ، فهل لذلك حقيقة ؟؟
ألواقع اني أقمت في العراق سنين ، ودخلت الموصل مرارا ، وعرفت كثيرا من أهلها ، فما رأيت الا خيرا ، ولا شاهدت إلا إكراما للزائر ، وحسن ضيافة ، ولطفا ، وبشاشة ، وسخاءَ نفس ، وكذلك كانت في ماضيها ، واِليكم أدلتي على ذلك :ـ
ـ1- هذا كتاب ألبخلاء للجاحظ المتوفي سنة 225 هجرية ، لا نجد فيه ذكراً للموصل.ـ
ـ2- قال المقدسي المتوفي سنة 380 هجرية عن الموصل : بلد جميل ، حسن البناء ، طيب الهواء ،صحيح الماء ،كبير الاسم ، قديم الرسم ، حسن الأسواق والفنادق ،كثير الملوك والمشايخ ، لا يخلو من اسنادٍ عال ، وفقيه مذكور . (أيضا لم يذكر البخل).ـ
ـ3- وقال ياقوت الحموي (سنة 626 هجرية ) - (الموصل المدينة المشهورة العظيمة ، أحدى قواعد بلاد الشام ، قليلة النظير كِبَرا وعِظما وكثرة خلق ، وسعة رقعة ،فيها محط رحال الركبان ،ومنها يُقصد إلى جميع البلدان ... وأما ما ينسب الى أهل الموصل من أهل العلم فأكثر من أن يحصوا...) ولم يذكر شيئاً مما يقال الان
ـ4- فقد زار الرحالةُ ابنُ جبير ( المتوفى سنة 614هـ) مدينة الموصل سنة 580، وأثنى عليها فقال: ((هذه المدينة عتيقة ضخمة، حصينة فخمة)) إلى أن قال: ( وأهل هذه البلدة على طريقة حسنة، يَستعملون أعمال البر، فلا تلقى منهم إلا ذا وجهٍ طلق، وكلمة ليّنة، ولهم كرامةٌ للغرباء، وأقبال عليهم ، وعندهم اعتدال في جميع معاملاتهم .ـ
ـ5- ويذكر ابن بطوطة المتوفي سنة 779 هجرية الموصل وقال : وأهل الموصل لهم مكارم أخلاق ولين كلام ، وفضيلة ، ومحبة في الغريب . كان أميرها حين قدومي عليها السيد الشريف الفاضل علاء الدين علي بن شمس الدين وهو من الكرماء الفضلاء أنزلني بداره ، وأجرى علي الانفاق مدة مقامي عنده.ـ
ـ6- زار الشيخ عبد الله بن حسين السويدي مدينة الموصل في رحلته الى الحج وكان ذلك سنة 1157 هجرية ، وقال عنها :( نزلت الخان المعروف بخان الأغوات ، فما مكثت فيه ساعة حتى جاء الأمجد بلا التباس : عثمان بن درباس ، وهو من ذوي أرحامنا ، فأخذني إلى بيته فجعلت أبات في داره المعمورة ، وفي النهار أخلى لي حجرةً من حجر الخان ألذي هو تحت إجارته وفرشها وعين لي من يخدمني . هذا الخان على يسار الجسر مشرفٌ عليه ، وله شباك يطل على الجسر وعلى نينوى قرية سيدنا يونس عليه السلام ، وترى قبته الشريفة ، وكذا البر الشرقي ،فبقيت ضيفا عنده مدة إقامتي يزيد في إكرامي كل يوم جزاه الله عني خيرا .ـ
أختتم المقالة بوصف رائع للشاعر السري الرفاء المتوفي سنة 362 هجرية
سقى ربا الموصل الزهراء من بلد جودٌ من الغيث يحكي جودَ أهليها
أأندب العيشَ فيها أم أنوحُ على أيامــها أم أُعزى عن لياليهــا
أرضٌ يحنُّ لها من يـفارقــــها ويحمدُ العيش فيها من يدانيها
لا أملك الصبرَ عنها ان نأيتُ ولو عُوِّضتُ من ظلها الدنيا وما فيها
__________________________________________________
مع تحياتي للمشرفين على بيت الموصل
سمير سعيد
عودة الى الصفحة الرئيسية
لأضافة التعقيبات او لقراءتها، يرجى الضرب على كلمة
Comments
على يسار السطر التالي