بين العامية والفصحى
بقلم الدكتور واثق محمد نذير الغلامي
(نشر هذا المقال القيم عن علاقة اللهجة العامية باللغة الفصحى للدكتور واثق محمد نذير الغلامي في شتاء سنة 1999م في العدد الاول من مجلة التراث الشعبي (السنة الثلاثون)، والتي كانت تصدر عن دار الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة والإعلام بجمهورية العراق . الموضوع الذي تناوله المقال موضوع حيوي ،وقد ارتأينا ان نعيد نشره مع حلول الذكرى الثامنة لوفاة كاتبه المرحوم الدكتور الغلامي الذي ينتسب الى اسرة موصلية كريمة فرغت نفسها من اجل خدمة ثقافة الامة وتاريخها) .
بقلم الدكتور واثق محمد نذير الغلامي
(نشر هذا المقال القيم عن علاقة اللهجة العامية باللغة الفصحى للدكتور واثق محمد نذير الغلامي في شتاء سنة 1999م في العدد الاول من مجلة التراث الشعبي (السنة الثلاثون)، والتي كانت تصدر عن دار الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة والإعلام بجمهورية العراق . الموضوع الذي تناوله المقال موضوع حيوي ،وقد ارتأينا ان نعيد نشره مع حلول الذكرى الثامنة لوفاة كاتبه المرحوم الدكتور الغلامي الذي ينتسب الى اسرة موصلية كريمة فرغت نفسها من اجل خدمة ثقافة الامة وتاريخها) .
العربية وعاء تراث الأمة وحضارتها وعقيدتها؛ واحد المقومات الأساسية التي تكون شخصيتها، وتعطيها ملامحها وهويتها، وتحقق وحدتها وتماسكها. تبوأت مكاناً عليّاً عند العرب قبل الإسلام؛ ظهر واضحاً في اهتمامهم الكبير بالشعر والخطابة والحكم، وتجلـّى بتراث أدبي عريض ونظام لغوي قويم طيلة العصور التي انصرمت منذ زمن الجاهلية حتى أيامنا الحاضرة. ولقد أرسى القرآن الكريم أسس هذه اللغة، ورسخ معالمها عندما نزل بلغة قريش، وأعطاها فرصة عظمى لتتفاعل لهجاتها، وتتسق أبعادها، وتتكشف أسرارها، وتتبلور في لغةٍ واحدةٍ هي اللغة الفصحى. كما أتاح لها فرصة كبرى للحفاظ على أصالتها ونقائها، وارتفع بها من لغة الأدب والتخاطب إلى لغة الإدارة والسياسة، والاجتماع والعلوم. وبانتشار الإسلام في أصقاع الدنيا غدت العربية لغة عالمية طارت إلى آفاق بعيدة وانتشرت في بقاع عديدة، فتعاظمت خصوبتها، وازداد ثراؤها، واتسع نماؤها متجلياً بالمؤلفات العلمية، والمصنفات الأدبية، والمعجمات اللغوية التي صنفت في فتراتٍ متعاقبة، والفت في أزمنة متوالية؛ مؤشرة مقدار ذلك التنامي والتطور عبر عصورٍ طوال.
بقيت العربية متماسكة لفظاً ومعنى، وحافظت على ثبات أصوتها خلال تاريخها الطويل بما يمثل ظاهرة مثيرة للإعجاب إذا ما قورنت بأصوات اللغات العالمية؛ وما يحدث لها وفقاً للسنن الطبيعية التي تجري على الألسن واللـّغات فتغيرها، وتحرفها عن مسارها، فتغدو منقطعةً عن جذورها بائنة عن أصولها. كما بقيت هذه اللغة وسيلة قائمة للتعبير منذ خمسة عشر قرناً، تحتل رقعة جغرافية تمتد مساحتها بشكل غير مصطنع ولا مفروض؛ مستوعبة تاريخ الأمة وثقافتها معبّرة عن معتقداتها وشريعتها. وهي بوصفها لغة القرآن كانت قد قامت بوظيفةٍ أولية ذات أهمية كبيرة حين وحّدت لهجات القبائل العربية في لهجة واحدة هي ( اللغة الفصحى ) وهو دور مميز للغة العربية تفردت به دون سائر اللغات ؛ ويعد مضاداً للاتجاه الطبيعي للـّغة التي في العادة تتجه نحو التعددية وليس التفردية. فلقد وحدت الفصحى نحو خمسين لهجة عربية كانت قائمة قبل الإسلام، وضمتهن في نسيج لغوي واحد، ولسان عربي مبين؛ معتمد على أسس متينة وقواعد راسخة... فكانت أهلاً لحمل كنوز التراث المضيئة منذ اكثر من أربعة عشر قرناً وسايرت الحضارة والتمدن واضطلعت بالتعبير عن مقتضيات العصر ومستلزمات العلوم والفنون والصناعة... فلم يعف أثرها؛ ولا اندرس وجودها، ولم يحل بها ما حل باللـّغات الميتة كاللاتينية التي تشعبت إلى لهجات وتحولت إلى لغات منقطعة الصلة بها، منفصلة عنها. فدرس أثرها؛ وعفا رسمها وزال وجودها. أما العربية فقد تميزت بعنصر جوهري يديمها ويجعلها في حصانة ومأمن من أن يجري عليها ما جرى على اللاتينية... ذلك ان العربية لغة دين سماوي ذي خطر يحتل رقعة شاسعة من العالم؛ بها كتبت أصول الدين تشريعاً وعقيدة؛ وعلى رأس تلك الأصول القرآن الكريم معتمد المسلمين ومرجعهم في شؤونهم الدينية والروحيّة... لذا فقد قدّست هذه اللغة إذ كانت لغة كتاب الله، ورمز الترابط العضوي بين العروبة والإسلام. ولقد استطاعت العربية ان تبلغ الأمم بعقائده وأفكاره. وان الفكر الإسلامي بكل آفاقه يدور في فلك من العربية التي استوعبت كتاب الله لفظاً ومادة بمرونتها التعبيرية وثروتها الهائلة من المفردات، وطرائق البيان، وضروب البلاغة، وانواع المجازات والقواعد اللغوية التي يعز نظيرها في أقدم اللغات، واعرق الألسن. كل ذلك يقف شاهداً على عظمتها، ودليلاً على الرقي الفكري للعرب قبل الإسلام وبعده. أما اللاتينية فحيث لم تكن لغة دينٍ مقدس فقد خضعت للسنن والنواميس الطبيعية التي تقضي بالزوال. لذا لبثت العربية قرابة ألف وخمسمائة سنة تؤدي دورها ومهمتها على وجه مرضٍ وبمقدرة فائقة تعد معجزة من المعجزات في عالم اللغات؛ فلم تعدم وسيلة للتعبير عن أعقد المسالك، واعمق الفكر، حتى لقد اعترف الاستشراق بأن العربية لغة غزيرة وقادرة على التعبير عن الفكر ودقائق روح العصر واعجب بقدراتها وسعتها التي تتقاصر عنها سائر لغات العالم. وقد ذكر عن العالم البيروني الذي كان يحسن اليونانية والفارسية والتركية والسنسكريتية، انه قال: (( ان العربية هي الوحيدة بين لغات العالم التي تصلح للكتابة العلمية والادبية )).
ولا ريب ان بقاء الفصحى على هذا النحو من القدرات الهائلة يعد مفخرة للعرب... وعليهم السعي الى تطويرها لتكون اكثر استجابة لمقتضيات الحضارة والعلم في يومنا وغدنا كما كانت مطاوعة لذلك في الاعصر الماضية، فقد اثبتت انها كائن حي ينمو ويتطور وعلينا ان لا ندخر وسعاً في تغذيتها بكل صالح ومفيد. وبالاشتقاق والتوليد والتعريب والنحت والاقتباس، وعدم تركها للتطور الانسيابي التقليدي؛ والعمل على تبسيطها باتخاذ الالفاظ المأنوسة والعبارات المألوفة، وتجنب الجافي والمهجور من الالفاظ الا لضرورة، والاهتمام بنحوها وصرفها وسائر علومها، وعرضها عرضاً شائقاً يتماشى مع مقتضيات عصرنا الحاضر.
غير انه على الرغم مما كسبته الفصحى من ضروب التطور والتوسع، وما تمرست به من ألوان التجارب فسايرت الحياة وطاوعت التقدم البشري، وعلى الرغم من مكانتها في نفوس الناطقين بها، واعتزازهم بقدسيتها، فقد ظهرت على السنتهم الهجنة والعامية بسبب احتكاكهم بالامم والشعوب بعد الفتوح... ففشا اللحن وكثر الدخيل... وغالبت العامية الفصحى فأزالتها وطرأت على ألسنة العرب فأمالتها. فغدوا على سلامة انسابهم ونقاء اصولهم يرطنون، ومع اجلالهم للغة القرآن عنها يعدلون. ولم يقف الامر عند هذا الحد فقد تشتتــّت العامية الى عاميات توزعت الامصار، فصار لكل صقع عاميته ولكل مصر لهجته. تباينت الفاظها وتمايزت كلماتها وتخالفت صيغها. ولئن كنا لهن جميعاً منكرين لكننا لا مناص لنا عنهن ولا مفر من التعاطي بهن فلقد غدت كل لهجة منهن ملمحاً من ملامح الناطقين بها، ومعلماً من معالم المتكلمين بصيغها. وان من الجدير بالذكر ان العامية عرضت في ألسنة العرب منذ زمن غير قريب، وتكونت صيغها ومصطلحاتها منذ عهد بعيد، فهي قديمة في تاريخ التخاطب في المجتمعات العربية السابقة؛ وترقى الى زمن مبكر من العصر العباسي عندما كثر الاختلاط بالاعجام واشتد التمازج بغيرهم من الاقوام؛ فتغلغلت مظاهر العجمة في اللسان وطغت الهجنة وانحسرت الفصحى، وظهرت العامية. وتحفل كتب اللغة والتاريخ بشواهد عن قدم العامية ونماذج من الفاظ مولـّدة منذ ذلك الزمن. وكان الكثير من ظواهر هذه العامية دائراً على الالسن منذ أزمنة متقدمة، وليس من الغريب ان نقرأ في كتاب الاغاني نماذج من الشعر اشبه بالازجال مما يماثل لهجتنا اليوم ويدنو منها كثيراً. من ذلك ما يحضرنا من قول (ابراهيم الموصلي) إمام الموسيقى في صدر دولة بني العباس ما نصه:
انا جـِتْ من طـرق موصل
أحمل قلل خمـريا
من شــــارب الـــملوك
فـلا بُدَّ من سكـريا
فاذا قرأنا انشاده وتدبرنا قوله على ما فيه من اقتراب من الفصحى وتشبث بها وجدنا تجافياً عنها وبعدا عن فصاحتها وانحرافا كبيراً عن قواعدها وأصولها. منذ ذلك الزمن يجري على ألسنة الخاصة وأهل العلم والادب. ومثل ذلك قول ( ابن أبي نقطة )( 1 ) ينعى أباه للخليفة الناصر( 2 ):
يا سيد السـادات
لك بالكرم عــادات
انا ابن أبو نقطة
تعـيـش أبويـا مات
وشواهد اخرى غيرها كثير من عامية مبكرة تكشف عن ملامح العامية العراقية بالذات، وتشير إلى بداياتها وخصائصها ....
ولئن بدا لنا ان العامية قديمة النسب في مجتمعاتنا وانها لغة المخاطبة والحديث فيها؛ شذت عن الفصاحة، وتجافت عنها ، فصارت قرينة الامية وصنو الركـّة، وانها لا ترقى الى مسالك الفصحى ولا تصلح وسيلة للبيان ولغة للكتابة والتدوين او ان تكون وعاءً صالحاً لاستيعاب العلوم. في حين ان الفصحى قرينة المعرفة ولسانها المبين تنسجم مع المشاعر النفسية للامة وتجاري الدوافع الطبيعية للرقي الاجتماعي، الا اننا لو قصصنا اثر العامية وتقصينا أصولها والفاظها وخصائصها لألفينا الجم من الفصيح كامناً فيها ويمكن الافادة منه لإغناء الفصحى واثرائها به بدلاً من الاقتباس من اللغات الاخرى لسد الحاجة واملاء الخلل، بدراسة مراجع لهجاتها وصقل كلماتها وتهذيبها والتي في الغالب هي ذات اصول عربية فصيحة فتعود لغة قويمة وصيغاً سليمة نعزز بها الفصحى ونرفدها ونثريها ونجنبها كل دخيل.
( اللهجات العراقية نموذجاً )
ولئن كان كلامنا جارياً عن العامية في الوطن العربي على وجه العموم فان لنا وقفةً نتلبث فيها عند عاميّة العراق... اذ هي لهجة قطرنا، وسمة لعراقنا وملمح من ملامحه، وهي لهجة مازالت تحمل من فحولة الفصحى طرفاً غير منكور وتحتفظ بحظٍ من الفصاحة ظاهر، وتتسم بطابع عروبي يطلّ من قسماتها وملامحها ويميزها عن سائر اللهجات العربية الاخرى.
ان الناظر الى هذه اللهجة يقع في روعه لأول وهلة انها لهجة واحدة تحكم عملية التفاهم والتخاطب بين العراقيين جميعاً؛ بألفاظها يتكلمون وبها يتحدثون. لكن المتمعّن الممحص تنكشف له حقائق اخرى غير ما بدا له بادئ الامر، اذ يلفي ان هذه اللهجة تختلف وتتباين بين صقع وصقع ومنطقة واخرى. فقد تفردت كل منطقة باسلوبها وتمايزت بالفاظها واختلفت في سماتها. فهي ليست لهجة واحدة بل ( لهجات ) يمكن توحيدهن وحصرهن جميعاً بثلاث رئيسات، مختلفات في ملامحهن متباينات في خصائصهن... وان اعمّ تلك اللهجات واوسعهن انتشاراً هي ( اللهجة العشائرية العربية ) التي ما زالت تحمل ما يوافق الطبيعة العربية المتصفة بمظاهر الرجولة والصراحة والاصوات الجهرية التي تلقي في روع السامع الاحساس بالشجاعة وتوحي بمعاني البذل والعطاء... ومن ابرز السمات اللغوية لهذه اللهجة قلبها حرف القاف كافاً اعجمية، وقلبها حرف الكاف بلفظ الكشكشة التي كانت على ألسنة بعض العرب قديماً. وان هذه اللهجة تتفرع الى فرعين اثنين ونوعين متمايزين بعض الشيء:
الاول منها: ( لهجة عشائر شرقي العراق ووسطه وجنوبيه ) ومعظم مدنه. ومنها مدينة بغداد.
أما الفرع الثاني منهما: فهو ( لهجة عشائر شمالي العراق وشماله الغربي )... وبين هذين النوعين سمات مميزة ظاهرة... منها ان كل واحد منهما تختلف عن الاخرى في المدارج الصوتية وتختلف عنها في صيغ التعبير واتخاذ الالفاظ التي تعارفت عليها وتواضعت على استعمالها كل واحدة منهما... مع ظاهرة جوهرية تميز بينهما الا وهي: ان لهجة الفرع الاول ومنهم الناطقون بالبغدادية؛ تكون الحروف التي تسبق الضمير ( الهاء ) في الافعال والاسماء والظروف وسواها مفتوحة على السنتهم.... فهم يقولون: (( إسمه )) بفتح الميم و(( صوته )) بفتح التاء، و(( كتابه )) بفتح الباء التي تسبق ضمير الغائب ( الهاء ) وهلم جرا.... أمّا الحال في لهجة الفرع الثاني أي عرب شمالي العراق وشماله الغربي فيكون الحرف الذي يسبق ضمير الغائب (الهاء) مضموماً كما في سائر اللهجات في الوطن العربي؛ فهم يقولون (( أسمه )) بضم الميم ((وصوته)) بضم التاء و(( كتابه )) بضم الباء؛ وقس على ذلك سائر الكلمات الاخرى. وهذه سمة ظاهرة تميز بين اللهجتين الشقيقتين اللتين ترجعان الى عائلة لغوية واحدة .
ولئن كنا قد بيّنا ان الفرع الاول من اللهجة العشائرية العربية يسود شرقيّ وجنوبيّ ووسط القطر ومدنه ومنها بغداد؛ فان لهجة الفرع الثاني منها تعم عرب شمالي العراق وشماليّ غربه وجزءاً من غربيه وهي مناطق عشائر وريف محافظة نينوى؛ وعشائر وريف محافظة صلاح الدين ومحافظة التأميم وجزءاً من محافظة الانبار.
ولعل لهجة بغداد ( التي هي من عائلة الفرع الاول من اللهجة العشائرية ) تعد نوعاً مميزاً فيها لما تتسم به من تأنق الالفاظ بعض الشيء ورقة في النطق وميل الى التحول الى لهجة مدنية حضرية؛ وما يلاحظ فيها من انها سائرة نحو التخلي عن كثير من الالفاظ التي تنسب الى اصول غير عربية... كما يلوح ان البغداديين في الايام الاخيرة اخذوا يحدون من قلب الكاف بلفظ الكشكشة المعروف عند بعض القبائل العربية قديماً؛ لثقل النطق به، وتجافيه عن الفصحى وعسره في اللسان، وهو مما يكثر في اللغات الاخرى. كما اخذوا يكثرون من نطق القاف قافاً عربية. وكان ذلك نادراً في لهجتهم قليلاً في لسانهم الا في مفردات معدودة .
تلك هي ملامح مبتسرة من اللهجة التي وصفناها بانها اكثر شيوعاً واشد ذيوعاً على ألسنة العراقيين أمس واليوم بفرعيها المذكورين.
اما اللهجة العامية الثانية فهي اللهجة ( الحضرية ) او المدنية والتي تختلف اختلافاً بيناً وظاهراً عن اللهجة الاولى؛ وهي مدعاة انتباه العراقيين اذا هم سمعوا الناطقين بها مما تعد غريبة على الاسماع بعض الشيء على الرغم مما تحفل به من سمات الفصاحة العربية. ويتكلم بهذه اللهجة سكان مدينة الموصل وسكان مدينة تكريت وتقترب منهما الدور وعانة وهيت. ولهجات هذه المناطق من عائلة واحدة متماثلة متقاربة... مع ملاحظة التجانس الكبير وصلة القربى الوثيقة بين لهجتي كل من مدينة تكريت ومدينة الموصل؛ حتى لتكاد اللهجتان تكونان لهجة واحدة في سماتها وخصائصهما، ولا سيما ما فيهما من تماثل في الاحتفاظ بحرف القاف ونطقه قافاً عربياً فصيحاً؛ وهو مما تحمد عليه هذه اللهجة التي أبقته سليماً على اللسان واضحاً في البيان ؛ في حين اهملته سائر اللهجات العربية وابدلته بحروف اخرى اختيرت حسب توافقها مع خصائص لهجاتهم... كما تتسم هذه اللهجة بظاهرة قلب حرف الراء غيناً ( 3 )، والاتجاه نحو إمالة الالف وهي معروفة قديماً في اللسان العربي الفصيح... وعليها شواهد في بعض من آي الذكر الحكيم... ولئن اسمينا هذه اللهجة ( بالحضرية ) فلأنها تتسم بالطابع الحضري الذي تختص به لهجات المدن ولا يألفه اللسان في المجتمع العشائري، لا بل نذهب الى ابعد من ذلك فنقول انها تسمية تطلقها العشائر على الناطقين بها حين يسمونهم بلهجتهم العربية ( اهل الحضير ) أي أهل الحواضر والمدن...
والواقع ان اللهجة الحضرية ( المدنية ) عربية عريقة، ذات أصول فصيحة، تحوي كل لفظ بليغ وكلام عربي مبين؛ ولها مزايا وسمات تفردت بها على سائر اللهجات العامية باحتفاظها ببعض قواعد الاعراب... وهو امر عدم وجوده في العامية... وعليه شواهد لا يسمح المجال بذكرها وبيان تفصيلها .
وفي ختام حديثنا عن اللهجات العامية العراقية نعرض للهجة الثالثة ونعني بها لهجة (اهل البادية)؛ وهي ذات صلة وثيقة باللهجة الاولى ولها وشائج قوية بفرعيها للتماثل بعض الشيء بين هذه اللهجات، ولكن اللهجة البدوية مع ذلك تبدو بعيدة عن اللهجة العشائرية، وتشكل نوعاً متميزاً سواءٌ في التحكم بنطق الحروف وأصواتها، أم في طرائق اخراج الالفاظ والعبارات التي تتسم بعدم الشدّ على الحروف واعطاء مرونة ملحوظة للتلفظ... وينطق بهذه اللهجة اهل البادية في شمالي القطر وشماليه الغربي ووسطه الغربي وجنوبه الغربي. ففي الشمال الغربي عشائر ( شمر ) بأفخاذها وفروعها؛ وفي غربيه عشيرة ( عنزة ) وتليهما عشائر البادية الجنوبية، هذا ولا يغيب عن البال لهجة قبيلة ( زوبع ) وافخاذها القاطنة غربي بغداد وجنوبيها فهي تندرج ضمن لهجة اهل البادية وهي شبيهة بلهجة قبيلة ( شمر ) لا بل هي شمرية اصلاً في خصائصها ولغتها وعاداتها وصلاتها وتمتاز اللهجة البدوية بجمال الفاظها، وسلامة صيغها، ونقاء اصولها، وخلوها من الالفاظ الاعجمية والدخيلة... وانها ما زالت تحمل الملامح العربية الاولى وخصائصها وسماتها.
تلك هي المامة خاطفة باللهجات المحلية في قطرنا العزيز... المحنا اليها دون الدخول في تفاصيلها. وقد تسنح الفرصة فتواتينا للكلام عن خصائص كل لهجةٍ من تلك اللهجات على انفراد لتتضح معالمها وتنجلي الفوارق بينها وليعرف مدى صلتها بالفصحى ومدى قربها منها...
ولا يخفى ان اللهجات عموماً بدأت تخلع عنها بعض سمات عاميتها وتتخلى عن هجنتها وانحرافها سائرةً نحو الفصحى واصالتها؛ ولو ببطء قد يستغرق زمناً غير يسير، ولتنبذ رطانة والفاظاً غير عربية ، وركة ورثتها خلال القرون المتعاقبة ، ولتستعيد عروبتها الصافية وتستقي من نبعها الاصيل على وجه لا يؤثر فيه دخيل ، ولا يعكره غريب.
المـراجـع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
. اسماعيل مظهر – تجديد العربية.
د . خضير الجميلي – محاضرة في مشكلات اللغة.
د . رمضان عبد التواب – فصول في فقه اللغة العربية.
محمود تيمور – مشكلات اللغة العربي.
مجلة الاستشراق / العدد الرابع – 1990 – احمد نظمي.
مجلة الضاد / الجزء الرابع – 1990 – علي جاسم سلمان.
المفصل في العروض والقافية وفنون الشعر – عدنان حقي 1987 – دمشق.
(1) أبو نقطة، منشد بغدادي كان يجيد ( فن القوما )؛ وهو فن ابتكره البغداديون القائمون بأمر السحور في رمضان؛ مأخوذ من قول بعضهم: (( قوما نسحر .. قوما )).
(2) 575 هـ .
(3) ذكر عن الجاحظ قوله: (( ان قلب الراء غيناً هو لغة الفصحاء والبلغاء والادباء ))... وانه اثنى عليها لانها لثغة محمودة ومحببة .
*
الصفحة الرئيسة