اصدقائي
قرب منزل الحورية
الى – صبحي صبري
نجمان ياسين
قرب منزل الحورية
الى – صبحي صبري
نجمان ياسين
كنتَ ابن "الشيخ فتحي" وكنتُ ابن "الشيخ فتحي". اترعت روحينا رائحة وجراح الفقر وملأت قلبينا، تهجدات ونداءات واستغاثات الدراويش وحرابهم المتألقة وسيوفهم الساطعة وطقوسهم الغريبة ! وطهرنا ماء البئر المباركة، هناك في سطح المرقد ! عرفنا كيف تجتمع الحياة بالموت في مقابر "الشيخ فتحي" ويتجاوران ويتعانقان بشكل عميق فحيث تخرج النساء والصبايا للنزهة قريبا من المقابر والعشب الغض المنير تحت نور الشمس، يخرج القراء لزيارة القبور، ليقرأوا على روح الموتى والاحبة الراحلين.ـ
ايها الفنان الكبير:ـ
وحدنا الفقر والنهر، والحلم الذي يذوي كلما اقتربنا من الامساك به، وتعشقنا في صبانا الاول، فتاة من اسرة ثرية، فتاة تشبه فراشة ترفل بالنور والحبور، ولعل هذا الحب الصبياني الطهور، قد ظهر بطريقة ما، في قصتي "جوار قصر شاهق" . . كانت تلك الصبية عروس ليالينا ونهاراتنا، انا كنت احب عبد الحليم حافظ واغانيه التي لا تموت، وانت كنت تحب فريد شوقي، وكانت الصبية تحب الاثنين ! أي احلام خائبة، عصية ومستحيلة، عشنا في تلك الاوقات ؟ هل تذكر يا صاحبي، كيف اشتعلت بفرح كاد يبكيني ويرديني ارضا، عندما لمست تلك الصبية ردن قميصي الازرق الجديد الذي كان قميص العيد والذي استبقت العيد وارتديته من اجل حوريتنا الجميلة تلك ؟ ! هل تذكر، كيف كُنت تصرع الصبية الاخرين، لتظهر للحورية، قوتك البدنية، وفروسية روحك، ولتذكرها بأنك صنو فريد شوقي ؟ ! هل تذكر "ك" القصاب الذي، اراد ان يحول بيننا، وبين رؤية حوريتنا، وكيف اوشكنا ان نفتك به، او يذبحنا بسكاكينه الحادة، لولا تدخل ذلك الرجل الذي احببته، واحبك، والذي هو ابي ياسين عباس ؟ ! كنت تنادي أبي: عمي ياسين، وصرتما صديقين منذ صبانا، وبقيتما تحبان بعضكما، وظل ابي يحترم الكادح والشجاع فيك، ويحب ان يأكل وبإقبال شديد، "السندويجات" الهائلة التي تعدها. ولي ان اقول ايها الفنان العصامي الدؤوب:ــ
ان لذة ما تبدع من طعام، لا تضاهيها لذة ! وهكذا هو المبدع، يبدع في كل نواحي الحياة، ويحقق التكامل في شخصه الجامع للموهبة عبر احترام الحواس والعقل معا! كانت اشجار الفستق في "الفيصلية" يا صديقي، تخلب اللب منا، وتسحرنا بخضرة ثمرها المشرق بلونه الودود، اما طعم ثمرها، فقد اسكرنا وجعلنا ذاهلين . . اشجار الفستق اليوم، مقطوعة الاعناق، خاوية الجذوع، يابسة الاوراق، وذابلة تنتحب تحت شمس جحيم غريب، هاجم قلبها، وسلبها بريقها ! يا للاسى، يا صديقي ! هل تذكر، لهونا على الدراجات الهوائية حيث كنا ننطلق في امسيات الصيف من "دكة بركة" مرورا بـ "رأس الكور" ، و "الميدان" باتجاه الجسر القديم، لنقترب من "جسر الخوصر" . . كنا نمرق مثل شهاب والصدر منا، يعلن نشوة غريبة ، السماء فوقنا تحتضن النجوم البراقة، ونحن نحاول ان نمسك سماءنا، آنذاك بدت السماء قريبة ورخية تنحو علينا .. كنا نصل قرب منزل حوريتنا، وندور بدراجاتنا عشرات الدورات، متأملين المنزل، وكأن النهار ما كان كافيا لنا جوار منزلها، فجئنا في الليل، لنبصر منزلها فقط ! احببت فيك، الكثير من الخصال، كرمك، شجاعتك، وصناعتك، لنفسك وفنك الجاد، خدمت الموصل وحرست ذاكرتها الشعبية وعرّفت بمبدعيها الافذاذ، بإخلاص وكنت مفصحا عن ارتباط الفنان بالموروث وعبقرية المكان ! انت تذكرني برامبو الذي قال مرة: من العبث ان نبلي سراويلنا على مقاعد الدراسة ! ذلك انك قدمت البرهان على ان الموهبة اكبر من التحصيل الدراسي وإحراز الشهادة، والحق اقول لك يا ابا محمد انك موهوب، وتخوض في عدة انهار بجدية، الا اني احب الممثل فيك بالدرجة الاساس، فهو المارد الذي يتجلى في ابداعك، اقول هذا وانا ادرك ان ما قدمته في الصحافة، وكتابة التمثيليات، ليس هينا على الاطلاق ! هل تعرف يا صديقي، وصديق ابي، انني كنت اقف امام مفارقة مربكة تخص فنك وشخصيتك، واقصد بذلك ان اغلب إن لم اقل جميع ادوارك ، كانت تجسد الشر والعنف والضراوة ، وكنت بارعا في ادائك وصادقا ومتوحدا في ادوارك ، تماما على العكس مما انت عليه من وداعة وطيبة قلب عجيبة وحميمية نادرة، في الحياة ؟ ! اعرف انك مريض، واعرف اني مريض ، واعرف ان قلبك الابيض لن يخذلك، ولذا اقول لك: لا تحزن على روحك، فقد كان ياسين عباس، يوصيني ان اغضب واقاتل المصائب والبلايا، ويوصيني الا – انقهر – على روحي، لان الرجل الذي ينقهر على روحه، يقع اسير الذل .ـ
انا اشعر، يا صاحبي بطعم ثمر الفستق في فمي وبنداء وتضرعات الدراويش في دمي، وبحرارة قلبك تعانق قلبي، فنحن نمتلك قلبين سحرهما حب حورية، رحلت مع البرق والسحابة، وبقيت عطر وردة تضوع في روحنا . .ـ
ملاحظة :ـ
نشرت هذه المادة في الصفحة الاخيرة، من صحيفة (الحدباء) الموصلية بعددها (1457) في 10 تموز 2013 ويعاد نشرها في كتاب بعنوان (اصدقائي) للكاتب الاستاذ الدكتور نجمان ياسين الذي يصدر قريبا، يضم الكتاب كتابات عن كبار المثقفين والمبدعين العرب والعراقيين الذي ارتبط بهم الكاتب بعلاقات انسانية وابداعية وطيدة وحميدة وفهمه لنفسية وابداع اصدقائه المبدعين وكيف ينظرون هم الى تجربته الابداعية والانسانية.ـ
ايها الفنان الكبير:ـ
وحدنا الفقر والنهر، والحلم الذي يذوي كلما اقتربنا من الامساك به، وتعشقنا في صبانا الاول، فتاة من اسرة ثرية، فتاة تشبه فراشة ترفل بالنور والحبور، ولعل هذا الحب الصبياني الطهور، قد ظهر بطريقة ما، في قصتي "جوار قصر شاهق" . . كانت تلك الصبية عروس ليالينا ونهاراتنا، انا كنت احب عبد الحليم حافظ واغانيه التي لا تموت، وانت كنت تحب فريد شوقي، وكانت الصبية تحب الاثنين ! أي احلام خائبة، عصية ومستحيلة، عشنا في تلك الاوقات ؟ هل تذكر يا صاحبي، كيف اشتعلت بفرح كاد يبكيني ويرديني ارضا، عندما لمست تلك الصبية ردن قميصي الازرق الجديد الذي كان قميص العيد والذي استبقت العيد وارتديته من اجل حوريتنا الجميلة تلك ؟ ! هل تذكر، كيف كُنت تصرع الصبية الاخرين، لتظهر للحورية، قوتك البدنية، وفروسية روحك، ولتذكرها بأنك صنو فريد شوقي ؟ ! هل تذكر "ك" القصاب الذي، اراد ان يحول بيننا، وبين رؤية حوريتنا، وكيف اوشكنا ان نفتك به، او يذبحنا بسكاكينه الحادة، لولا تدخل ذلك الرجل الذي احببته، واحبك، والذي هو ابي ياسين عباس ؟ ! كنت تنادي أبي: عمي ياسين، وصرتما صديقين منذ صبانا، وبقيتما تحبان بعضكما، وظل ابي يحترم الكادح والشجاع فيك، ويحب ان يأكل وبإقبال شديد، "السندويجات" الهائلة التي تعدها. ولي ان اقول ايها الفنان العصامي الدؤوب:ــ
ان لذة ما تبدع من طعام، لا تضاهيها لذة ! وهكذا هو المبدع، يبدع في كل نواحي الحياة، ويحقق التكامل في شخصه الجامع للموهبة عبر احترام الحواس والعقل معا! كانت اشجار الفستق في "الفيصلية" يا صديقي، تخلب اللب منا، وتسحرنا بخضرة ثمرها المشرق بلونه الودود، اما طعم ثمرها، فقد اسكرنا وجعلنا ذاهلين . . اشجار الفستق اليوم، مقطوعة الاعناق، خاوية الجذوع، يابسة الاوراق، وذابلة تنتحب تحت شمس جحيم غريب، هاجم قلبها، وسلبها بريقها ! يا للاسى، يا صديقي ! هل تذكر، لهونا على الدراجات الهوائية حيث كنا ننطلق في امسيات الصيف من "دكة بركة" مرورا بـ "رأس الكور" ، و "الميدان" باتجاه الجسر القديم، لنقترب من "جسر الخوصر" . . كنا نمرق مثل شهاب والصدر منا، يعلن نشوة غريبة ، السماء فوقنا تحتضن النجوم البراقة، ونحن نحاول ان نمسك سماءنا، آنذاك بدت السماء قريبة ورخية تنحو علينا .. كنا نصل قرب منزل حوريتنا، وندور بدراجاتنا عشرات الدورات، متأملين المنزل، وكأن النهار ما كان كافيا لنا جوار منزلها، فجئنا في الليل، لنبصر منزلها فقط ! احببت فيك، الكثير من الخصال، كرمك، شجاعتك، وصناعتك، لنفسك وفنك الجاد، خدمت الموصل وحرست ذاكرتها الشعبية وعرّفت بمبدعيها الافذاذ، بإخلاص وكنت مفصحا عن ارتباط الفنان بالموروث وعبقرية المكان ! انت تذكرني برامبو الذي قال مرة: من العبث ان نبلي سراويلنا على مقاعد الدراسة ! ذلك انك قدمت البرهان على ان الموهبة اكبر من التحصيل الدراسي وإحراز الشهادة، والحق اقول لك يا ابا محمد انك موهوب، وتخوض في عدة انهار بجدية، الا اني احب الممثل فيك بالدرجة الاساس، فهو المارد الذي يتجلى في ابداعك، اقول هذا وانا ادرك ان ما قدمته في الصحافة، وكتابة التمثيليات، ليس هينا على الاطلاق ! هل تعرف يا صديقي، وصديق ابي، انني كنت اقف امام مفارقة مربكة تخص فنك وشخصيتك، واقصد بذلك ان اغلب إن لم اقل جميع ادوارك ، كانت تجسد الشر والعنف والضراوة ، وكنت بارعا في ادائك وصادقا ومتوحدا في ادوارك ، تماما على العكس مما انت عليه من وداعة وطيبة قلب عجيبة وحميمية نادرة، في الحياة ؟ ! اعرف انك مريض، واعرف اني مريض ، واعرف ان قلبك الابيض لن يخذلك، ولذا اقول لك: لا تحزن على روحك، فقد كان ياسين عباس، يوصيني ان اغضب واقاتل المصائب والبلايا، ويوصيني الا – انقهر – على روحي، لان الرجل الذي ينقهر على روحه، يقع اسير الذل .ـ
انا اشعر، يا صاحبي بطعم ثمر الفستق في فمي وبنداء وتضرعات الدراويش في دمي، وبحرارة قلبك تعانق قلبي، فنحن نمتلك قلبين سحرهما حب حورية، رحلت مع البرق والسحابة، وبقيت عطر وردة تضوع في روحنا . .ـ
ملاحظة :ـ
نشرت هذه المادة في الصفحة الاخيرة، من صحيفة (الحدباء) الموصلية بعددها (1457) في 10 تموز 2013 ويعاد نشرها في كتاب بعنوان (اصدقائي) للكاتب الاستاذ الدكتور نجمان ياسين الذي يصدر قريبا، يضم الكتاب كتابات عن كبار المثقفين والمبدعين العرب والعراقيين الذي ارتبط بهم الكاتب بعلاقات انسانية وابداعية وطيدة وحميدة وفهمه لنفسية وابداع اصدقائه المبدعين وكيف ينظرون هم الى تجربته الابداعية والانسانية.ـ