أو.... بلدٌ يطفو على النفطِ
بقلم: غانم العناز
يقال بأن أول وقود أطلقت عليه عبارة الذهب الاسود كان الفحم الحجري حيث كانت مناجمه تقارن بمناجم الذهب الشهيرة لكثرة ما درت من ارباح خيالية على مالكيها من جراء انتشار استعماله بصورة كبيرة خلال الثورة الصناعية للتدفئة في البيوت والمخازن والمصانع وكوقود للمحركات البخارية التي انتشر استعمالها بسرعة كبيرة في القطارات والمصانع والسفن التجارية والحربية والمطاحن والمضخات وما الى ذلك من المعدات الاخرى التي يصعب حصرها.
لقد كان من غرائب الصدف ان يسعر النفط العراقي بالشلن (ذهب) في اتفاقية الامتيازات النفطية مع شركة نفط العراق في آذار 1931 كما مر ذكره في مقالتنا السابقة (نفط العراق وتسعيره بالذهب) مما اكد معادلة حقول النفط بمناجم الذهب ليضيف بذلك نكهة خاصة لعبارة الذهب الاسود المتعارف عليها الان.
النفط نعمة لا نقمة
لقد انعم الله علينا بثروة الذهب الاسود العظيمة هذه التي لو استطعنا استعمالها بحكمة وتعقل لجعلت من العراق بلداً متطوراً ينعم فيه المواطن بالعيش الكريم والأمن العميم وهذا ليس بالشيء العسير ان تكاتف الجميع في البناء بامانة واخلاص.
غير انه مما يؤسف له ان تلك الثروة الهائلة ذهبت هباءً منثوراً في خوض حروب طويلة عقيمة ليتبعها حصار بغيض خانق ادى الى تدهور الاقتصاد وهبوط قيمة الدينار العراقي الى الحضيض وما رافقه من غلاء فاحش. ثم جاء الغزو المقيت والاحتلال البشع الغادر وما تلى ذلك من هذه الحالة المأسوية التي تشهدها البلاد في ايامنا هذه من عدم الاستقرار واضطراب الامن واستشراء الفساد وغير ذلك من الآفات الكثيرة.
لقد راح ضحية هذا المسلسل الدموي الرهيب الملايين من ابناء شعبنا بين شهيدٍ ويتيمٍ ومعوقٍ ومشردٍ ومهجرٍ او مهاجر، لتنقلب تلك النعمة العظيمة الى نقمة أليمة اوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم من خراب شامل وفقر مدقع وفوضى عارمة وقسوة صارمة تدمى لها القلوب وتدمع لها العيون.
اما في منتصف القرن الماضي فقد استعملت هذه الثروة بصورة عقلانية وفعالة خلال الفترة 1951 – 1963 من قبل مجلس الاعمار الشهير المؤلف من تسعة منهم رئيس الوزراء (رئيساً) وعضوية وزير المالية ووزير الاعمار الذي يقوم بالتنسيق بين مجلس الاعمار ومجلس الوزراء في الحكومات المتعاقبة. اما اعضاء المجلس الستة الدائميين المستقلين فيختارون ممن يشهد لهم بالعلم والنزاهة والاخلاص، معظمهم من خبراء المال والاقتصاد، وذلك بعد ان حصن المجلس ضد التدخل في شؤونه سواء كان ذلك مباشراً أوغير مباشر من قبل كافة الجهات سواء كانت رسمية أو غير رسمية.
مشاريع مجلس الاعمار الرئيسية
حددت ميزانية المجلس بكامل ايرادات النفط في العام 1950 لتخفض الى 70% في السنين اللاحقة. صرف الجزء الاول من تلك الايرادات على مشاريع قطاع الري والزراعة والسيطرة على الفيضانات الموسمية المدمرة التي كانت تغرق العاصمة بغداد والكثير من المدن والقرى وذلك باصلاح الاراضي وشق الترع وبناء السدود التي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا كسدي دوكان ودربندخان وسدة سامراء وناظم الثرثار ومنخفض الحبانية وغيرها.
(Binnie, Deacon and Gourley)
التي قامت باعداد الدراسات والتصاميم الخاصة بمشاريع الري تلك. فقد كانت الملحقية الثقافية في السفارة العراقية في لندن في ذلك الزمان تعد برامج خاصة لتدريب طلبة البعثات خلال عطلاتهم الصيفية مع الشركات البريطانية العاملة في العراق. وقد كان من حسن حظي ان التحق خلال عطلتي الصيفية مع تلك الشركة في مقرها في لندن في صيف 1957 لاقضي ما يقارب الثلاثة اشهر للتدريب والتعرف على قسم من تلك المشاريع. لقد كانت تلك البرامج التدريبية، ولا زالت، مهمة جداً لتعريف الطلاب بالجانب العملي والتطبيقي لدراستهم ، فهل يا ترى تقوم ملحقياتنا الثقافية بمتابعة وتدريب طلاب بعثاتنا هذه الايام مع الشركات التي تعمل في العراق؟
صرف الجزء الثاني من تلك المبالغ على قطاع الابنية والمواصلات والخدمات التي شملت مشاريع انشاء المساكن والابنية الحكومية والمستشفيات كمشروع مدينة الطب في بغداد والمدارس والكليات اضافة الى مشاريع الطرق الرئيسية كطريق الحلة/الكوفة/النجف وطريق بغداد/الفلوجة والجسور كجسر الملكة عالية او الجمهورية لاحقاً وجسر الأئمة في بغداد ومنشآت تصفية واسالة المياه ومحطات توليد الطاقة الكهربائية وشبكات نقلها وتوزيعها الى غير ذلك من المشاريع الحيوية.
كما ان استقلاليته ونزاهته جديرة بالتقدير والاحترام، فأين تلك النزاهة والاخلاص بالعمل مما نراه اليوم من المشاريع الوهمية التي تذهب فيها الاموال ادراج الرياح دون تنفيذها أو الفساد المستشري في تنفيد المشاريع الاخرى التي احسنها كما يقال اعرج او كسيح؟
نعم لمجلس إعمار جديد
لقد ظهرت في الآونة الاخيرة اصوات من جهات مهنية رصينة وشخصيات وطنية شريفة واقتصادية متمرسة عفيفة وسياسية مستقلة نظيفة وهندسية وفنية خبيرة تدعو الى انشاء مجلس اعمار مستقل على غرار مجلس الاعمار السابق لاصلاح هذا الخراب الشامل والدمار الكامل الذي يشهده العراق في هذه السنين العجاف.
ان من اهم الامور التي يجب الاخذ بها لانجاح المجلس الجديد هي ضمان خبرات ونزاهة واستقلالية اعضائه ومنحه الصلاحيات اللازمة للعمل بحرية تامة وذلك بسن القوانين التي تحصنه وتحميه وتحد من التدخل في شؤونه من اية جهة سواء كانت رسمية أو غير رسمية. حيث انه مسؤول تجاه مجلس الوزراء فقط، ياخذ تعليماته وتوجيهاته منه ليقدم على ضوئها برامجه للمشاريع القصيرة والطويلة الامد للمصادقة عليها ليقوم بعد ذلك بتنفيذها بالطريقة السليمة التي يراها.
لذا فاننا نضم صوتنا الى تلك الاصوات الوطنية الشريفة التي تدعو لانشاء مجلس اعمار جديد تخصص له نسبة ثابتة من واردات الذهب الاسود الهائلة للمباشرة بإعمار العراق لرفع المعاناة المزمنة، من بطالة مرتفة وخدمات متدنية وامراض متفشية وفقر مدقع وجهل مخجل وفوضى عارمة وقسوة غاشمة وفساد مستشري وتعصب اعمى وامتهانٍ لكرامة المواطن وسلبٍ لحقوقه وغيرها من مثل هذه الآفات التي تنخر في مجتمعنا.
إننا بذلك نستطيع تحقيق ما يصبو اليه الجميع من استتبابٍ للأمن والاستقرار وتثبيتٍ لدعائم العمران والرخاء في ربوع الوطن العزيز فقد طال الانتظار ونفد الصبر وعزّ الرجاء حتى بلغت القلوب الحناجر.
راجين من الله عز وجل ان يصفي القلوب ويوحد الكلمة ويشيع الإخاء ليجمع الشمل ويعيد المحبة والرخاء والحياة الكريمة الى كافة ابنائنا واهلينا الكرام.
آذار 2014
المصدر - كتابى العراق وصناعة النفط والغاز في القرن العشرين الصادر بالغة الانكليزية عن دار نشر جامعة نوتنكهام البريطانية في ايار 2012 .